يتضمّن هذا الحوار قسمين، الأوّل عبادي، والآخر فكري خاص. أردنا من الأوّل أن يكون مخصوصاً لاستقبال شهر رمضان المبارك، فيما القسم الآخر فيتناول قضايا قد تبدو - وهي كذلك - خصوصيّة لجهة الواقع الإسلامي الشّيعي، ولكننا شئنا طرقها باعتبارها جزءاً من الاهتمام الفكري الذي يشغل المسلمين عامةً. يتحدّث في الأمرين الشّيخ عبد الله اليوسف (مواليد السّعوديّة 1964م)، من منظار تعبّدي واضح، فهو يتحيّز إلى انتمائه الدّيني، ويؤكّد على القيمة الإسلاميّة باعتبارها شرطاً لقبول كلّ الأعمال، كما أنّه ينطلق من موقفٍ متجانس مع الواقع العام للمؤسّسة المرجعيّة الدّينيّة، وبالتّالي فإنه يُقدِّم رؤية إيجابيّة حول التساؤلات الإشكاليّة التي كثيراً ما تُطرح حولها، وهي مناسبة لكي نؤكّد أن الطروحات النقديّة التي تنفتح لها 'إشراقات'؛ لا يعني إطلاقاً انتماءاً معيّناً أو تنكيداً خاصاً، بل هو انفتاح على الأفكار المطروقة، على اختلافها، أملاً في الإطلال على المشهد بكافة فواعله وتأثيراته المتداولة.
بداية، وبما أننا في ظلال شهر رمضان، شهر العبادات، نسأل: لماذا شُرّعت العبادات في الإسلام؟
- ترتكز فلسفة العبادات في الإسلام على طاعة الإنسان المطلقة لله تعالى، فالعبادات أمور توقيفية يجب الإتيان بها كما أمر المولى عزّ وجل، كما أن للعبادات أيضاً آثاراً تربوية وأخلاقية في بناء شخصية الإنسان، ونشر القيم المعنوية والأخلاقية في المجتمع. ولكلّ عبادة من العبادات أهداف وغايات، ومقاصد نبيلة، كما أن للعبادات آثاراً أخلاقية وتربوية وسلوكية وصحية واجتماعية، وقد كشف العلمُ الحديث الكثيرَ من خفايا وأسرار وفوائد العبادات التي شرّعها الله عزّ وجل بما يُغرّز قوة الإيمان عند الإنسان والمجتمع.
الفرق بين العبادة الإسلاميّة وطقوس الآخرين
وما وجه اختلاف العبادة الإسلاميّة عن الطقوس التي يمارسها الآخرون من أتباع الدّيانات أو المسالك الدّينيّة والروحيّة؟ ما السّبيل للحفاظ على الممارسة العباديّة في الإسلام من أن تتحوّل إلى نمط طقوسي يُشبه الطقوس السّائدة بين الأقوام والجماعات الأخرى؟
- أمّا ما يميّز الشّعائر الدّينيّة، والعبادات في الإسلام عن الطقوس التي يمارسها الآخرون من أتباع الديانات الأخرى؛ فأهم ذلك هو أن مفهوم العبادات في الإسلام لا يقتصر على الشعائر الدّينيّة، بل أن كلّ عمل فيه رضا لله عزّ وجل فهو عبادة، فالعمل من أجل توفير الرّزق الحلال عبادة، وإدمان التفكير والتفكّر عبادة، والتأليف من أجل إيصال الرّسالة الهادفة للناس عبادة، وطلب العلم عبادة، وتعليم الناس المعارف والعلوم عبادة.. وهكذا، فالعبادة مفهومٌ شامل لكلّ ما فيه رضا لله تعالى، وخدمة للنفس والمجتمع والأمة. ثم أن العبادة في الإسلام ليست منفصلة عن الحياة والواقع الخارجي، بل تهدف لبناء الفرد المؤمن، والمجتمع الصالح، ونشر الأخلاق والقيم المعنوية في المجتمع. أما الطقوس العبادية عند الأديان الأخرى فهي لا علاقة لها بالواقع الخارجي، كما أن مفهومها ليس شاملاً كما هو الحال في المفهوم الإسلامي لمعنى العبادة.
في زمن العولمة، ومع ازدياد الضّغوط الماديّة والمغريات؛ كيف السّبيل لجعل مناسباتنا الدينية (وبينها شهر رمضان) محافظاً على خصوصيّته العباديّة والروحية؟ مع التذكير بأن الإنسان في كثير من الأحيان يكون مجبوراً على العيش وسط أجواء العولمة المنافية مع روحانية الشهر الكريم.
- شهر رمضان سيّد الشّهور، ويمتاز عن غيره بأجوائه الرّوحانية، وله وقع خاص في النفوس والقلوب، وذلك لما يرمز إليه من طاعةٍ لله عزّ وجل، وغذاء للروح والنفس والعقل، وترويض للنفس على تعديل الميول والغرائز، وتنمية الإرادة وتقويتها. وبالرغم من كلّ ذلك، فقد لعبت وسائل الإعلام الحديثة في عصر العولمة في التّركيز على برامج الترفيه والتسلية التي لا تخلو معظمها من مواد محرمة أو منافية لقدسية شهر رمضان المبارك، وتزداد المسلسلات والأفلام غير الملتزمة من حيث النوعية والكمية في شهر رمضان الكريم، كما أن للسهرات الرّمضانية وما يصاحبها من أغانٍ ورقص في إضفاء أجواء من الترفيه المحرّم بما يتناقض مع مكانة وخصوصية شهر رمضان المبارك. وحتى لا ينساق الإنسان وراء ذلك، علينا أن نُكثر من البرامج العبادية في شهر رمضان الكريم، مثل تلاوة القرآن الكريم مع التدبّر فيه، والإتيان بالصلوات المندوبة، وحضور مجالس الذكر والعبادة، والمداومة على صلاة الجماعة، والاهتمام بالفقراء والمحتاجين، والمشاركة في المنتديات الأدبية والفكرية المفيدة.. بهذه الأمور وغيرها نستطيع المحافظة على خصوصية شهر رمضان العبادية والروحية والتربوية والأخلاقية.
النقد العلمي مطلوب.. و«السّجاديّة» تراث معتبر
هناك أدعية كثيرة يمارسها المؤمنون في شهر رمضان، ولكن بعض الباحثين يضع إثارات حول متن هذه الأدعية وسندها. ما رأيكم في نقد كتب الأدعية وتحليلها سنداً ومتناً؟ وهل هناك كتاب أدعية موثوق 100% عند الشّيعة الإماميّة، كما هو حال منْ صحّح الأدعية الواردة من طرق أهل السنة والجماعة؟
- النقد العلمي لمنْ يمتلك أدوات التحقيق والنقد المرتكز على القواعد العلمية المتبعة شيءٌ مهم ومطلوب ومفيد، أما أن يقوم بالنقد منْ يفتقر إلى أدواته، وليس متخصّصاً في العلوم الشرعية، أو عارفاً بها؛ فهذا لن يكون قادراً على ممارسة النقد العلمي، وهو أمرٌ مناقض للتخصّص العلمي. ثم إن الأدعية فيها المأثور والمعتبر وفيها غير ذلك، وتعدّ الصّحيفة السجادية من النوع الأول، وهي واردة عن الإمام السجاد علي بن الحســـين بن علي بن أبي طالب من أئمة أهل البيت. وكلّ منْ يقرأ الصّحيفة السّجاديـــة ويتعمّق في أبعاد الأدعية الواردة فيها؛ يُدرك عظمة هذه الصّحيفـــة، وما تحتويه من كنوز معرفيــة وروحـــية، وكلها تدعو إلى العبودية المطلقـــة لله تعالى، والابتعــاد عن ضغــوط الغرائز والشّهـــوات لتربــط الإنسان بالحقّ المطلق وهو الله عز وجل.
المرجعيّة للجميع.. وهي غير بعيدة عن التّجديد
ما رأيك سماحتكم في واقع المرجعيّة الدّينيّة في الوسط الشّيعي؟ أين تقفون من أطروحات المرجعيّة الرّشيدة، والمؤسّسة، والمرجعيّة الشورويّة؟ هل تعتقدون أنّ المرجعيّة الدّينيّة همّشت الكيان الدّيني، والمؤسّسة الدّينيّة، وذلك بالنّظر إلى ما يُقال عن هيمنة رؤى أحاديّة، ومناهج 'حزبيّة' على المرجعيّات العليا؟
- مؤسسة (المرجعية الدينية) مؤسّسة فاعلة ومؤثرة في الوسط الشيعي، وقد مرّت بمراحل مختلفة، وللتطورات من حولها أثر فاعل في المدّ والجزر لنشاطها وفاعليتها، فقد يتعاظم دورها إذا ما سمحت لها الظروف السّياسية بذلك، وقد تُصاب بالجزر عندما تعاني من ضغوط سياسية أو اقتصادية أو غيرها من التطورات والظروف المتغيرة. ولا أرى مهماً إطلاق المصطلحات المختلفة على المؤسسة المرجعية، فما يهمّنا أن تكون المرجعية الدينية فاعلة ونشطة وقادرة على القيام بوظائفها ومهماتها، ومتابعة لللمتغيرات الزمانية والمكانية، وهي في الغالب كذلك. أمّا القول بهيمنة رؤى أحادية، ومناهج حزبيّة على المرجعيات العليا؛ فهذا غير دقيق، ويفتقر إلى الدّليل والبرهان، فالمرجعيات العليا تنطلق من مكانتها الدّينيّة، وتنظر لمصلحة المسلمين كلهم، وهي فوق التحزّبات والأحزاب، فالمرجعية هي للجميع، ولا يمكن أن تُؤطر نفسها بحزبٍ أو جماعة معينة، لأن ذلك يُضعف من مكانتها الدّينيّة، وموقعيتها العامة، وهو ما لا ترضاه المرجعية لنفسها.
هل يمكن الحديث عن 'إصلاح ديني' بدأ يتحرّك من داخل المؤسّسة الدّينيّة؟ ما مدى واقعيّة منْ يتحدّث عن اتساع دائرة التغيير في أوساط النّخب الدّينيّة، وأنّ المستقبل يؤشّر إلى احتمال وقوع تغيّرات دراماتيكيّة لجهة انحسار هيمنة 'الإكليروس' الدّيني، لصالح المدارس التجديديّة التي تربط الدّين مع المكتسبات المعرفيّة الحديثة؟
- المؤسسة الدينية غير منفصلة عمّا يدور حولها من تغيّرات وتطوّرات، فهي كأي مؤسسة أخرى بحاجةٍ إلى التجديد والتطوير في وسائلها وأدواتها وآلياتها، وقد سعى العديدُ من كبار المراجع والفقهاء إلى تطوير (مؤسسة المرجعية الدينية) بما يتناسب مع المتغيّرات الرّاهنة، وبما يخدم أهداف الإسلام وقضايا المسلمين. وإذا كان مقصودكم من الحديث عن الإصلاح الديني هو التجديد في الفكر الديني؛ فهذا شيء موجود ودائم، فباب الاجتهاد عند الشيعة - كما عند بعض غيرهم - مفتوح، وسيبقى كذلك، ولا معنى للاجتهاد إلا إذا كان للمجتهد آراء ونظريات في العلوم الشرعية حسب اجتهاده، وما يتوصّل إليه من أفكار قد تكون جديدة. ودائماً في الحواضر العلمية والحوزات العلمية توجد الكثير من النظريات والآراء العلمية المتغايرة، والجدل العلمي لم ينقطع يوماً من السّاحة العلمية ولن ينقطع؛ لأن من طبيعة البيئات العلمية هو النقد والجدل والاجتهاد. وما أشرتم إليه من مدارس تجديديّة فهي لا تخرج عادة من هذا الإطار للاجتهاد بمعناه العام والمعروف، أما إذا كان المقصود هو التمرّد على القواعد العلمية في الاجتهاد فهذا مصيره الفشل، لأن الاجتهاد يجب أن يرتكز على أسس علمية، ويجب إتباع الأدوات العلميّة في الاجتهاد، وإلا فإن صاحبه لا يعدّ مجتهداً أو مجدّداً.
الطّريق إلى الوحدة الإسلاميّة
في كلّ مرةٍ يطفو على السّطح تحرّك لأجل الوحدة والتقريب بين المسلمين، تندلع فتنة هنا أو هناك، تارة على صيغة فتاوى، وتارة أخرى من خلال مواقف وتصريحات تكفيريّة متبادلة. ما السّبيل برأيكم للمضي في طريق الوحدة والتقريب؟ وما تحليلكم للإثارات المذهبية التي لا تتوقف، لاسيما وأن المسلمين يعانون من تحديات وجوديّة كثيرة؟
- الوحدة بين المسلمين فضيلة قرآنية كما في قوله تعالى: ««إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون». ويجب الحفاظ عليها من خلال تغليب مصلحة الأمّة على مصلحة الفئة أو الطائفة، وكذلك من أجل مواجهة التحدّيات الخطيرة التي تواجه الأمة الإسلاميّة، ولا تُفرّق بين شيعي أو سني. لكن للأسف الشّديد، هناك منْ يُغلّب مصالحه الشّخصيّة على مصلحة الأمّة، كما أن التشدّد والتكفير الذي تمارسه بعض الفئات الإسلامية ضد الآخرين من المسلمين يؤدّي إلى تبادل التّهم، وزيادة الضغائن والأحقاد بين المسلمين. وما يزيد الطين بلّة هو توظيف الاختلاف المذهبي في الصّراع السّياسي، واعتبار مذهب ما أداة سياسية لتوسيع النفوذ أو الاستقطاب السياسي.. وهو أمرٌ في غاية الخطورة والحساسية السّياسيّة والدّينيّة. وللخروج من كلّ ذلك، علينا أن نعود إلى أصول الوحدة التي يدعو إليها القرآن الكريم، وتغليب مصالح الأمة على أية مصالح فئوية أو طائفية، وإلغاء التمييز القائم على أسس مذهبية أو عنصرية، وعدم تغليف الخلاف السّياسي بلباس ديني، وإنشاء قنوات فضائية تتبنى شعار الوحدة والتواصل بين المسلمين بصدق وإخلاص، ونزْع كلّ ما يُثير الأحقاد والضغائن بين مختلف أتباع المذاهب الإسلاميّة، وتعزيز روح الاحترام والثقة بين المسلمين، والتركيز على القواسم المشتركة بين المسلمين وإبرازها إعلامياً، ونبذ كلّ منْ يدعو إلى الفرقة أو الحقد أو العنصرية بين المسلمين، وسنّ قوانين تُجرّم كلّ منْ يُسيء للمذاهب الإسلامية، أو يدعو للفتن المذهبية بين المسلمين.. بهذه الأمور نستطيع المضي في طريق الوحدة والتقريب بين أتباع المذاهب الإسلامية.
رابط الحوار في صحيفة الوقت : http://www.alwaqt.com/art.php?aid=176814