في مساء يوم الأربعاء 27 محرم 1431هـ الموافق 13 يناير 2010م انتقل إلى رحمة الله تعالى العالم الرباني العلامة الشيخ علي نجل العلامة الشيخ منصور المرهون (رحمه الله)، فتفاعل أهل القطيف من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها حزناً ولوعة وحسرة بفقده وغيابه عنهم، وهبَّ الجميع كباراً وصغاراً، شيوخاً وشباباً، رجالاً ونساء في توديع هذا العالم الرباني الورع التقي "إلى مثواه الأخير، ولم أر في حياتي تشييعاً مهيباً في منطقة القطيف كما حدث في تشييع العلامة الشيخ علي المرهون (رحمه الله تعالى).
ولا عجب في ذلك إذا عرفنا السبب، فقد ملَكَ الشيخ علي المرهون قلوب الجميع، وأصبح يحظى بمحبة كل الناس على اختلاف توجهاتهم ومشاربهم وقناعاتهم، وهي ميزة لا يتمتع بها إلا أصحاب القامات الكبيرة من أضراب العلامة المرهون.
وانطلاقاً من هذه الحقيقة علينا أن نتساءل عن أسرار محبة الناس، كل الناس، للشيخ علي المرهون بهذه الصورة التي جعلته كبيراً في عيون من عرفوه أو سمععوا بسيرته ومسيرته إن لم ينالوا شرف القرب منه، فأصبح محبوباً عند الجميع بما يقل نظيره تجاه أي شخصية علمية.
وبحثاً عن أسرار محبة الناس للعلامة الشيخ علي المرهون ( 1334ـ - 1431هـ) يمكن اكتشاف الأسرار التالية:
1- التواضع من دون تكلف:
التواضع صفة حميدة ونبيلة، وتعبر عن كبر النفس ورفعتها وسموها، وقد حثَّ القرآن الكريم على التواضع في قوله تعالى: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
والمتواضع محبوب عند الله تعالى، ومحبوب عند الناس، أما المتكبر فهو مبغوض عند الله عز وجل، و منبوذ عند الناس، وقد كان العلامة الشيخ علي المرهون أنموذجاً عملياً للتواضع الحقيقي، فطبيعته التواضع من دون تكلف أو تصنع، فهو المتواضع مع كل الناس، بغض النظر إن كانوا فقراء أم أغنياء، بل هو أب الفقراء وراعي الأيتام.
والأمثلة على تواضعه الكبير كثيرة وعديدة: فإذا ما دعاه أحد لتناول وجبة غذاء يكره أن يتميز على غيره في الأكل والشرب، ويرفض أن يكون طعامه مختلفاً عن الآخرين.
وفي الحج يفرد بعض الحملات لكبير المرشدين غرفة خاصة للنوم والجلوس، إلا أنه كان يرفض ذلك مفضلاً النوم مع الناس في غرفة مشتركة.
وفي الأفراح - كما الأتراح - لا يتغيب عن مشاركة الناس أفراحهم وأتراحهم بغض النظر عن مقامات أهل الفرح أو الحزن.
ولتواضعه الحقيقي أحبه الناس، ومَلَك قلوبهم، وسيطر على مشاعرهم... هذا هو السر الأول في محبة الناس للشصفيخ علي المرهون (رحمه الله).
2- صفاء القلب:
صفاء القلب وطهارته من الضغائن والأحقاد والأغلال تجاه الآخرين جعلته محبوب جميع أفراد المجتمع وطبقاته وشرائحه.
فالشيخ علي المرهون معروف عنه نقاء القلب وحسن السريرة وصفاء النية، فلم يعتد على أحد، ولم يؤذ أحداً، ولم يشتم أحداً، ولم يسىء إلى أحد، بل أحسن إلى الجميع، وعمل على خدمة الناس، وحل مشاكلهم.. وهذا هو السر الثاني في محبة الناس لهذا العالم الرباني.
ومن مظاهر صفاء قلبه ونقاء سريرته إنه كان يرفض الإساءة لأحد، ويزجر من يغتاب أحداً من الناس في مجلسه، ويرفض النيل من أي شخصية خصوصاً إذا كانت من أهل العلم والفقه والفضيلة.
وقد نقل لي أكثر من شخص أن أشخاصاً أرادوا النيل من أحد المراجع المعروفين في المجتمع بمحضره؛ فما كان من فضيلته إلا أن نهرهم وطردهم من مجلسه.
ولهذا فقد كان مصداقاً لقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ .
كما كان مطبقاً لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾.
صفاء القلب عندما يتحول إلى مًلَكَة عند الإنسان، فإنه يجعل كل شيء في حياته صافياً، نقياً، جميلاً، عذباً... وهكذا كان العلامة المرهون.
3- احترام الناس:
احترام الناس ومحبتهم، وإظهار ذلك لهم، هو سر من أسرار كسب قلوبهم ومشاعرهم، فليس يوجد في الحياة شيء أحب إلى الإنسان من نفسه.
كسب محبة الناس تحتاج إلى احترامهم وتقديرهم وإظهار ذلك إليهم، وهكذا كان يفعل العلامة الشيخ علي المرهون، كان يحترم الناس فاحترموه، ويحبهم فأحبوه، ويقدرهم فقدروه.
كان يعيش مع الناس، ويتحسس آلامهم وآمالهم، ولا يجد أي بأس أن يجلس معهم أينما كانوا يجلسون، وكان وفياً لأصدقائه وأصحابه، فلم ينسهم عندما عجزوا عن زيارته، بل كان يذهب إليهم لعيادتهم، وتفقد أحوالهم.
وتراه يرحب بالقادم إلى مجلسه أيما ترحيب، وأتذكر أنني عندما عدتُ إلى أرض الوطن من الدراسة الدينية في إيران، ذهبت ذات يوم لزيارته في مجلسه العامر بحي الشويكة بالقطيف، وكانت المرة الأولى لزيارته والتعرف عليه، فما إن رآني داخلاً إلى مجلسه حتى هَبَّ واقفاً وهو يرحب بكلمات الاحترام والترحيب، والابتسامة تعلو محياه، وعانقني بشدة وكأنه يعرفني منذ وقت بعيد!
وأنا جالس، ما إن يأتي أحد زواره حتى يرحب به، موزعاً نظراته على الجميع يحدث هذا، و يلتفتُ إلى ذاك، ويداعب من في المجلس بقصص لا تخلو من الفكاهة والمداعبة الجميلة!
وهذه الأريحية في التعامل مع الناس، وعدم التكلف المصطنع في علاقة عالم الدين بالناس، كسرت الحواجز النفسية بينه وبين مختلف شرائح المجتمع.
فاحترامه للناس ومحبتهم جعلتهم يبادلونه نفس الشعور والإحساس... وهذا هو السر الثالث في محبة الناس له.
4- التعامل الأبوي:
امتاز العلامة الشيخ علي المرهون بأنه كان أباً حانياً على الجميع، وتعامل مع كل الشرائح الاجتماعية، والتوجهات المرجعية، والقناعات الثقافية المختلفة...تعامل الأب الحنون مع أولاده، فكسب الجميع، ونال محبة الكل، وأصبح مقبولاً عند جميع الفئات بما يصعب تحققه لأحد من علماء الدين.
فالعلامة المرهون لم يدخل في صراع مع أحد على مكسب ديني أو دنيوي، فهو الزاهد عن الدنيا، والمتورع عن الوقوع في الشبهات، وهمه الوحيد خدمة الدين والعلم والمجتمع.
وتجلت مظاهر أبوته أيضاً في التوجيه والإرشاد، والنظر بعين واحدة لكل الشرائح والتوجهات، وكان مشجعاً للطاقات والمواهب، وراعياً لها في غير موضع ومكان من غير النظر إلى اختلاف في الرأي أو التقليد أو التوجه... وبذلك رأى الجميع فيه أباً لهم.. وهو ما لم يتحقق إلا للقلة من أمثاله سيرة وسلوكاً وأخلاقاً وصفاءً وعملاً.
رحم الله العلامة الشيخ علي نجل العلامة الشيخ منصور المرهون رحمة الأبرار، وأسكنه مع الأطهار محمد وآله الأطياب.... إنه سميع مجيب الدعاء