على تغاير الظروف و الأزمان و الأمصار، وتبدّل الدول والحضارات، تظل قيمة العدل نقطة الارتكاز في مسيرة الأُمم والشعوب و نهضتها و بناء حضارتها ، فهي أساس الملك كما يعبر و معدن السلام و الاطمئنان و الرفاه، و بها يعرف القانون السليم و أي أمة تمسكت بها حل التقدّم والصعود إلى القمة بربوعها، و كل أمة تنازلت عنها كان مآلها الانهيار والسقوط.
لا يتجادل عاقلان ناهيك عن مؤمنين حول موقعية العدل في الوجود كله، و مركزيته في مشاريع السلام العالمي و الكوني و التطلع الحضاري، و نظرا لذلك كله، جادت أنامل أستاذي و صديقي المؤمن عالم الدين السعودي الشيخ الدكتور عبد الله أحمد اليوسف حفظه الله و رعاه ، ببعض الوريقات القليلة عددا الغنية مضمونا، الهادفة رساليا و ثقافيا، و التي حملتنا في رحلة ثقافية رائعة و جادة في رحاب أعظم كتاب في الوجود عبر الزمن كله، كتاب خالق الوجود الله سبحانه و تعالى، فكانت بمثابة درس من دروس التدبر في القرآن العظيم ، لوعي أحد مفردات الحقيقة الكونية بل لا نبالغ إذا قلنا أنه أساسها، لكن نظرا لشمولية هذا الموضوع "العدل" لكل أبعاد الحياة و الوجود، ركز سماحة الشيخ اليوسف في بحث علاقة العدل بالاجتماع من منظور قرآني، فكان عنوان بحثه: العدالة الاجتماعية في القرآن الكريم ، حيث جاءت خطة البحث ثلاثية الأبعاد : المقدمة و التمهيد، يليه المدخل المفاهيمي ثم التحليل، و كون المؤلف أقر في المقدمة قائلا: و قد حاولت في هذه الأوراق التي بين يديك ، استكشاف بعض أبعاد النظرية القرآنية في (العدالة الاجتماعية) مع إقراري مسبقا بحاجة هذا الموضوع الهام إلى مزيد من التأمل و التدبر في القرآن الكريم...
نجده ترك المجال مفتوحا أمام الباحث، و لم يختم بحثه بخاتمة، كإيحاء للقارئ الباحث بأن الموضوع بحاجة لجهد متعدد الأبعاد و الأفراد و الآليات و العلوم، و الجميل في بحث سماحة الشيخ اليوسف نلحظه بالتمهيد، الذي يمتد للمدخل المفاهيمي وصولا للتحليل المقتضب لبعض أبعاد النظرية القرآنية في العدالة الاجتماعية، أقصد هنا التناسق المنهجي في تقديم الموضوع للقارئ، فالقارئ لا يشعر بتعرجات خلال مسيرة القراءة للكتاب، بالعكس يجد نفسه يزداد انفتاحا على الموضوع دون أي ملل، و لعل السر في ذلك مجال بحث الموضوع "القرآن"، أضف إلى ذلك نباهة المؤلف و جده و اجتهاده المستمر في البحث القرآني، مما يكسب القارئ وعيا خاصا ينتقل به من الفردانية الغافلة إلى الاجتماع المنفتح على الله ضمن منظومة فكرية متوازنة...
أما الميزة الأخرى التي تستقطب القارئ و تثير نباهته تتحدد في الاستدلال القرآني الذي يكشف إلى الأهمية البالغة في الارتباط العلمي بالقرآن و طلب الموضوعية و تثبيت التواضع في مشوار بناء الذات و الاجتماع، هذه الحقيقة نلحظها بوضوح في مبحث المفاهيم، و الأهم من ذلك هو الدقة المنهجية و الابتعاد عن التقليد المنهجي، حيث المؤلف فضل أن يعطي تعريفا مقتضبا نوعا ما لمفهوم العدل و بالمقابل أسهب بعض الشيء في تعريف مفهوم الظلم، و هذا أسلوب بيداغوجي خاص بمنهج إيصال المعلومات الأولية للناشئين سواء عمرا أو معرفة بالعلوم، و لعل مقصده هنا أن التسرع في طرح مفهوم العدل مباشرة للقارئ كمادة ثقيلة لا يمكن للعقل استيعابها و للوجدان هضمها بسهولة، فلابد من الرفق بالمتلقي من خلال تقريب العدل للأذهان عبر الضد، كما يعبر عن ذلك بأن الأمور تعرف بأضدادها، و لقد وفق سماحة الشيخ اليوسف في صياغة تراتبية مفاهيمية، انتقلت بالقارئ نحو آفاق اجتماعية تحمل بين طياتها أسئلة و هموم و قضايا و آمال أيضا...
أما الميزة الثالثة و التي اتسم بها تحليل المؤلف لأهم أركان العدالة الاجتماعية و التي حددها بثلاث أركان، أنه بالإضافة للآيات القرآنية و الأحاديث و القصص النبوية و الإمامية، استند سماحة الشيخ الدكتور اليوسف للتقارير العلمية و الإخبارية العالمية، و هذا مما يحسب له كدليل على أن الاشتغال الثقافي الإسلامي بحاجة لجهد كبير في جمع المعلومات و متابعة التطورات، ناهيك عن الجانب الفني في إيصال الفكرة من خلال الواقع الحي للناس، دون الاستغراق في المثال...
و أخيرا لفتت انتباهي قائمة المصادر و المراجع، حيث كان جلها ذات قيمة علمية ضمن الواقع العلمي الإسلامي...
في الختام و بكلمة هذا الكتاب، اعتبره مدخل أساسي في وعي قيمة العدالة الاجتماعية في القرآن الكريم، صحيح أن العديد من المفكرين و العلماء من السابقين و بخاصة في الزمن الحديث و المعاصر، حاولوا طرق هذا الموضوع و وفقوا في جوانب عدة يمكن الوقوف عليها، لكن ذلك كله يعتبر رافعة لمواصلة المسيرة في بحث الأسئلة المصيرية تحت ضوء كتاب ربنا عز و جل، و لعل أستاذي و أخي العزيز الشيخ الدكتور عبد الله أحمد اليوسف حفظه الله، كان سباقا لذلك في زماننا، خصوصا في ظل الفوضى و المحن و المشاكل و الآلام و الابتلاءات التي تعرفها مجتمعاتنا، ناهيك عن الجهل بمركزية العدالة الاجتماعية في مشروع الإصلاح وفق المنظور الإسلامي...
و حتى لا أنسى التقديم الفني للكتاب كان ممتازا سواء من حيث الغلاف و التنظيم و الترتيب والفهرسة و الهوامش، كما لا نغفل عن أن طباعة الكتاب كانت بمثابة صدقة جارية للمغفور له الحاج إبراهيم بن سلمان بن كاظم الدرورة، و هذا مجال للعمل الخيري مهم في صناعة المجتمع القارئ و ترقية الوعي لدى إنساننا...
أما بالنسبة للعناوين و الأفكار تعمدت عدم عرضها حتى لا أحرم القارئ من الاستفادة و التركيز في وعيها، و فضلت القيام بقراءة عابرة ومبسطة، و أملي أن توسع الأبعاد الواردة في الكتاب مستقبلا، ليزداد النضج و الوعي و الحراك من خلالها و التحية الطيبة و الخالصة مع الدعاء الجميل للعزيز المؤمن الفاضل سماحة الشيخ الدكتور عبد الله اليوسف على هذا الإصدار الاستراتيجي بالنسبة لمستقبل الاجتماع الإسلامي بكل أبعاده الثقافية و السياسية و الاقتصادية و في ذلك كله الأمن و السلم و الأمة الصالحة ...و الله من وراء القصد.