اشتد في عصر الإمام محمد الباقر الجدال والسجال حول العديد من المسائل والمباحث الكلامية والاعتقادية، وكان لنشوء الفرق والتيارات المختلفة أكبر الأثر في إشاعة بعض المفاهيم والعقائد المنحرفة، وهو الأمر الذي جعل الإمام الباقر يتصدى بقوة لرد تلك الانحرافات العقدية، وبيان الحق فيها.
ونشير إلى بيان وآراء الإمام الباقر حول مسألة من أهم المسائل العقائدية وهي مسألة حقيقة التوحيد؛ إّذ أوضح الإمام أهم ما يرتبط بعقيدة التوحيد، وَفَنَّدَ ما أثير حولها من شبهات وإشكاليات وأقوال منحرفة، ومن أهم ما أوضحه ما يلي:
1- أزلية واجب الوجود:
أوضح الإمام الباقر أن واجب الوجود أزلي سرمدي، فالله تعالى ليس لوجوده بداية، وليس له نهاية، فلم يكن مسبوقاً بالعدم، ولا يمكن أن يطرأ عليه العدم؛ بل هو أزلي سرمدي، فواجب الوجود يستحيل أن يسبقه أو يلحقه العدم، وإذا استحال عليه ذلك، يثبت أزليته وأبديته وبقاؤه.
وقد بيَّن الإمام محمد الباقر ذلك عندما سأله رجل عن الله تعالى، فقال له: أخبرني عن ربك متى كان؟
فقال : ويلك إنما يقال لشيء لم يكن: متى كان، إن ربي تبارك وتعالى كان ولم يزل حياً بلا كيف، ولم يكن له كان، ولا كان لكونه كون، كيف، ولا كان له أين، ولا كان في شيء، ولا كان على شيء، ولا ابتدع لمكانه مكاناً، ولا قوي بعد ما كون الأشياء، ولا كان ضعيفاً قبل أن يكون شيئاً، ولا كان مستوحشاً قبل أن يبتدع شيئاً، ولا يشبه شيئاً مذكوراً، ولا كان خلواً من الملك قبل إنشائه، ولا يكون منه خلواً بعد ذهابه، لم يزل حياً بلا حياة، وملكاً قادراً قبل أن ينشئ شيئاً، وملكاً جباراً بعد إنشائه للكون، فليس لكونه كيف، ولا له أين، ولا له حد، ولا يعرف بشيء يشبهه، ولا يهرم لطول البقاء، ولا يصعق لشيء بل لخوفه تصعق الأشياء كلها.
كان حياً بلا حياة حادثة، ولا كون موصوف، ولا كيف محدود، ولا أين موقوف عليه، ولا مكان جاور شيئاً، بل حي يعرف، وملك لم يزل له القدرة والملك، أنشأ ما شاء حين شاء بمشيئته، لا يحد ولا يبعض ولا يفنى، كان أولاً بلا كيف، ويكون آخراً بلا أين، وكل شيء هالك إلا وجهه، له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين.
ويلك أيها السائل، إن ربي لا تغشاه الأوهام، ولا تنزل به الشبهات، ولا يحار ولا يجاوزه شيء، ولا ينزل به الأحداث، ولا يسأل عن شيء، ولا يندم على شيء، ولا تأخذه سنة ولا نوم، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى[1] .
وسأل نافع بن الأزرق أبا جعفر فقال: أخبرني عن الله متى كان؟
فقال: متى لم يكن حتى أخبرك متى كان، سبحان من لم يزل ولا يزال فرداً صمداً، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً[2] .
وكلام الإمام الباقر غاية في الوضوح والدقة، فالله تعالى أزلي، سرمدي، ويجب توحيده وتنزيهه عن مخلوقاته، أو تشبيهه بها ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾[3] .
2- النهي عن الكلام في ذات الله تعالى:
نهى الإمام محمد الباقر في عدة مناسبات عن الخوض و الكلام في ذات الله تعالى، لأن المحدود لا يمكنه إدراك اللامحدود، وقد يؤدي الخوض في ذات الله تعالى إلى الوقوع في الشرك والضلال، لذلك يقول الإمام الباقر : ((تكلموا في خلق الله ولا تتكلموا في الله؛ فإن الكلام في الله لا يزداد صاحبه إلا تحيراً)). وفي رواية أخرى عن حريز: ((تكلموا في كل شيء ولا تتكلموا في ذات الله))[4] .
فالكلام في الذات الإلهية من دون علم ومعرفة يوقع الإنسان في الشبهات، وقد يخرجه من حضيرة الإيمان إلى دائرة الشرك والانحراف، بينما الكلام في مخلوقات الله تعالى، والتأمل في عجائبها وأسرارها يزيد الإنسان إيماناً بالله تعالى، وقرباً منه، وانقطاعاً إليه، لذلك يقول الإمام الباقر : (( إياكم والتفكر في الله، ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خلقه ))[5] .
3- حقيقة التوحيد:
سأل جابر بن يزيد الجعفي - وهو أحد تلامذة الإمام الباقر - أن يعلمه شيئاً من التوحيد، فأجابه الإمام الباقر إجابة دقيقة مبيناً حقيقة التوحيد حيث قال :
((إن الله تباركت أسماؤه التي يدعى بها وتعالى في علو كنهه واحد، توحد بالتوحيد في توحده، ثم أجراه على خلقه فهو واحد، صمد، قدوس، يعبده كل شيء، ويصمد إليه كل شيء، ووسع كل شيء علماً))[6] .
وبذلك بيّن الإمام الباقر حقيقة التوحيد وأقسامه، إذ أشار إلى توحيد الذات بمعنى أنه واحد في ذاته لا شريك له، فهو واحد لا ثاني له في الوجود الذاتي، ولا كثرة له في ذاته وصفاته، فذاته ليست بمتجزية، ووجوده وصفاته ليست بزائدة، ولم يفته شيء من كمالاته، بل كلما ينبغي له فهو له بالفعل وفي مرتبة ذاته ( توحد بالتوحيد في توحده ) أي تفرد بتوحيده في حال تفرده بالوجود يعني أنه كان في الأزل قبل إيجاد الخلق يوحد نفسه بلا مشارك ( ثم أجراه ) أي توحيده ( على خلقه ) بأن فطرهم عليه أو كلفهم به ( فهو واحد ) بالمعنى المذكور ( صمد ) يرجع إليه جميع الخلائق في جميع الحوائج ( قدوس ) طاهر من النقايص والعيوب، ومتنزه عن الأولاد والأنداد وغيرهما مما لا يليق به ( يعبده كل شيء ) ناظر إلى الواحد; لأن الوحدة المطلقة وعدم المشاركة في الوجود الذاتي يقتضيان عدم المشاركة في العبادة، فكل شيء عابد له لا معبود ( ويصمد إليه كل شيء ) ناظر إلى الصمد، والصمد القصد، وفعله من باب طلب ( ووسع كل شيء علماً ) ناظر إلى القدوس; لأن القدس يقتضي العلم بجميع الأشياء لئلا يلزم الجهل المنافي له[7] .
4- أقسام التوحيد:
من المعلوم أن توحيد الله تعالى على أقسام أربعة وهي:
أ- توحيد الذات الذي أشرنا إليه.
ب- توحيد الصفات بمعنى أن صفات الله تعالى عين ذاته.
ج- توحيد الأفعال بمعنى أن الله تعالى هو المتصرف في الكون من جهة الخلق والتدبير والرزق وغيرها.
د- توحيد العبادة بمعنى أن المعبود هو الله تعالى، ولا تصح العبادة إلا له عز وجل ((يعبده كل شيء)) كما عَبَّر الإمام الباقر .
[2] أصول الكافي، الشيخ الكليني، دار التعارف للمطبوعات، بيروت - لبنان، طبع عام 1419هـ - 1998م، ج1، ص 143، رقم1.
[3] سورة الشورى، الآية: 11.
[4] أصول الكافي، الشيخ الكليني، دار التعارف للمطبوعات، بيروت - لبنان، طبع عام 1419هـ - 1998م، ج1، ص 147، رقم1.
[5] أصول الكافي، الشيخ الكليني، دار التعارف للمطبوعات، بيروت - لبنان، طبع عام 1419هـ - 1998م، ج1، ص 148، رقم7.
[6] أصول الكافي، الشيخ الكليني، دار التعارف للمطبوعات، بيروت - لبنان، طبع عام 1419هـ - 1998م، ج1، ص 174، رقم2.
[7] شرح أصول الكافي، المازندراني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1421هـ - 2000م، ج4، ص 63.