التواضع صفة أخلاقية حميدة، لأنه يعبر عن سمو النفس ورفعتها، فالتواضع ـ كما عرفه علماء الأخلاق ـ هو اللين مع الخلق، والخضوع للحق، وخفض الجناح.
وقد حَثَّ القرآن الكريم المؤمنين على التواضع، وبالرغم من أن كلمة (التواضع ) لم ترد بلفظها في القرآن الكريم، ولكن وردت كلمات تشير إليها وتدلّ عليها، منها قوله تعالى: ﴿. . . وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[1] وقوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا﴾[2] وقوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[3] .إلى غيرها من الآيات الشريفة التي فيها معنى التواضع.
أما في السنّة المطهّرة فقد روي الكثير من الروايات التي تحثّ على التحلي بصفة التواضع، والتي توضح أيضاً فضيلته وفضله، منها قول الرسول : (( لا حسب إلا بتواضع ))[4] وقوله: (( ما تواضع أحد للّه إلاّ رفعه اللَّه ))[5] وقوله : (( إنّ التواضع يزيد صاحبه رفعة، فتواضعوا يرفعكم اللَّه ))[6] وقال لأصحابه يوماً: (( ما لي لا أرى عليكم حلاوة العبادة )) قالوا: وما حلاوة العبادة؟ قال: (( التواضع ))[7] وروي عن أمير المؤمنين أنه قال: (( عليك بالتواضع، فإنه من أعظم العبادة )) [8] وورد عن أبي عبدالله قوله: (( فيما أوحى الله عزَّ وجلَّ إلى داود يا داود كما أنَّ أقرب النّاس من الله المتواضعون كذلك أبعد الناس من الله المتكبّرون )) [9] وعن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله قال: سمعته يقول: (( إن في السماء ملكين موكلين بالعباد، فمن تواضع لله رفعاه ومن تكبر وضعاه )) [10] ...إلى غيرها من الروايات الكثيرة التي تبين أهمية التواضع وفضيلته، فحريّ بالمسلم أن يتصف بهذه الصفة الأخلاقية الرفيعة، والتي توصله للفلاح والسعادة في آخرته ودنياه.
ولذلك نجد أن التواضع سمة بارزة من سمات الأنبياء والأئمة والأولياء والعلماء والحكماء، وقد سجلت لنا كتب التاريخ والسيرة الكثير من القصص والشواهد والأمثلة على ذلك.
ومن هؤلاء العظماء الإمام الحسين بن علي الذي كان مثالاً بارزاً للتواضع ولين الجانب وخفض الجناح للمؤمنين، وقد نقلت لنا كتب السيرة والتراجم والتاريخ شواهد مشرقة من تواضعه ، نشير إلى بعضها وهي:
1ـ روى العياشي في تفسيره عن مسعدة قال: مرًّ الحسين بن علي ( عليه السلام ) بمساكين قد بسطوا كساء لهم فألقوا عليه كسراً.
فقالوا: هلم يا ابن رسول الله فثنى ( رجله ونزل ) ثم تلا: ﴿ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ﴾ [11] ثم قال: قد أجبتكم فأجيبوني.
قالوا: نعم يا ابن رسول الله ، وقاموا معه حتى أتوا منزله، فقال للرباب: أخرجي ما كنت تدخرين.[12]
2ـ نقل صاحب الأعيان: أن الإمام الحسين مَرَّ على فقراء يأكلون كسراُ من أموال الصدقة، فسلم عليهم فدعوه إلى طعامهم، فجلس معهم، وقال: لولا أنه صدقة لأكلت معكم، ثم قال: قوموا إلى منزلي، فأطعمهم، وكساهم، وأمر لهم بدراهم .[13]
3ـ روى قطب الدين الراوندي: بعثت امرأة الحسين إليه: إنا صنعنا ألواناً من الطعام الطيب وصنعنا طيّباً فانظر أكفاءك فأتنا بهم، فدخل الحسين المسجد فجمع السؤّال الذين فيه والمكاتبين فانطلق بهم إليها، فأتاها جواريها فقلن: قد والله جلب عليك المساكين، ودخل الحسين على امرأته، فقال: أعزم عليك خُواناً عن خُوان[14] لا تدخري طعاماً ولا طيّباً، ففعلت.[15]
وتدل هذه القصص عن تواضع الإمام الحسين أنه كان شديد التواضع للمؤمنين، وكان يخالط الفقراء والمساكين والضعفاء، ويجالسهم، ويأكل معهم، ويكرمهم، ويدعوهم إلى منزله، ويفيض عليهم بعطفه وحنانه.
وتواضع الإمام الحسين لم يكن عن تصنع أو تكلف، وإنما هو مَلّكة جُبِلَ عليها، فهو يحب التواضع ويأنس به، ويجالس المتواضعين، ويحب الفقراء والمساكين. ومن جهة أخرى كان يكره التكبر والكبرياء، ويتجنب مجالسة المتكبرين والطغاة والظالمين.
فلنتعلم من تواضع الإمام الحسين كيف نتواضع للمؤمنين، ونتعامل برفق ولين مع الفقراء والمساكين والضعفاء، فالمتواضع محبوب عند الله تعالى، وعند الناس. والمتكبر مبغوض عند الله عز وجل، ومنبوذ عند الناس.
[2] سورة الفرقان/ 63.
[3] سورة الشعراء/ 215.
[4] البحار، العلامة المجلسي، ج 74، ص 168.
[5] صحيح مسلم، ج3، ص432.
[6] أصول الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 130، رقم 1.
[7] إحياء علوم الدين، ج3، ص241.
[8] ميزان الحكمة، ج8، ص 3554، رقم 21826.
[9] أصول الكافي، ج 2، ص 132، رقم 11.
[10] أصول الكافي، ج2، ص 135، رقم 2.
[11] سورة النحل، الآية: 23.
[12] الوسائل، الحر العاملي، ج 24، ص 300-301، رقم 30603.
[13] أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج 2، ص 245.
[14] أي هاتي خُواناً بعد خُوان.
[15] مكارم أخلاق النبي والأئمة، قطب الدين الراوندي، ص 245، رقم 302.