إن صناعة الأفكار من الأعمال العقلية الصعبة والمهمة؛ فالمجتمع بحاجة دائمة لأفكار جديدة، وبلورة أفكار مبثوثة، ومعالجة قضايا فكرية وثقافية مستجدة؛ بما يُسهم في تكوين الرأي العام، وتوجيهه نحو أفكار نابعة من قيمنا وثقافتنا بحيث تكون سيدة في عالم الأفكار والآراء، وقادرة على التأثير الإيجابي في تفكير الناس وأفكارهم وقناعاتهم.
وإيصال الأفكار إلى الناس يتم بوسائل متعددة ومتنوعة، ومن أهمها: المجلات الفكرية المحكمة التي تهتم بإنتاج الفكر والثقافة والمعرفة، وتقديمها لأهل العلم والرأي والفكر. وتأتي في عداد هذه المجلات الفكرية الرائدة مجلة الكلمة التي بلغت العشرين عاماً من العطاء الفكري والثقافي، والتي ساهمت في صناعة التجديد الفكري والتجدد الثقافي، وتقديم الأفكار والآراء سواء كانت جديدة أم متجددة أم ناقدة.
ولمزيد من البيان والإيضاح سأركز على محورين مهمين في مسار المجلة وهما:
المحور الأول- سمات مجلة الكلمة:
لأي مجلة فكرية كانت أم سياسية سمات وخصائص تعكس سياسة القائمين عليها، ويمكن الإشارة إلى أهم سمات مجلة الكلمة في النقاط التالية:
1ـ العلمية:
اتبعت المجلة في دراساتها المنشورة فيها سمة العلمية، وهي سمة لا غنى عنها في أي مجلة فكرية محكمة؛ إذ يجب أن تقوم أي دراسة علمية على المنهج العلمي الرصين، سواء من حيث توثيق المصادر والمراجع، أو استخدام اللغة العلمية أو الكتابة وفق المنهجية الموضوعية، وهذا ما نلحظه في الدراسات العلمية والفكرية المنشورة في المجلة.
2ـ الاعتدال:
ونقصد به الاعتدال في الطرح، ومناقشة الأفكار بهدوء، والنقد الموضوعي، وتجنب الألفاظ الحادة، ولغة القطع والجزم، والابتعاد عن التشنج في معالجة ونقد الأفكار.
وهذا ما نلاحظه بوضوح في مجلة الكلمة، حيث نجد أن الاعتدال هو من السمات البارزة فيها، بعيداً عن اللغة التصادمية، أو العبارات الجارحة، أو تسقيط الأشخاص، فالتركيز على مناقشة الأفكار باعتدال واتزان هو المنهج المتبع في سياسة تحرير المجلة كما يلمسها أي متابع لها.
3ـ الانفتاح:
البحث عن الأفكار الجيدة لا يتوقف عند جماعة خاصة، أو مذهب خاص، أو تيار خاص، بل تجده عند كل العقلاء والحكماء فـ (( الحكمة ضالة المؤمن فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق )) كما ورد عن الإمام علي .
وسمة الانفتاح بارزة في منهج مجلة الكلمة، حيث نجد أنها تنشر لكُتَّاب من مختلف المذاهب الإسلامية، ومن مشارب وتوجهات مختلفة، ومن بلدان عديدة، ولا ينحصر كُتّابها في توجه معين، أو مذهب واحد، أو تيار خاص، بل نشرت للجميع، وهذا يؤكد انفتاحها الفكري على الجميع فالفكر لا حدود له، وهو سر نجاحها واستمرارها وانتشارها في معظم البلدان الإسلامية.
4ـ التجديد:
في ظل عالم تتزاحم فيه المنظومات والأنساق الفكرية والثقافية المتباينة، وتتدافع فيه الأفكار المتغايرة، ومع ملاحظة أن الأفكار لم يعد بالإمكان محاصرتها بعد التطور الهائل في نقل وتبادل المعلومات والمعارف والأفكار... نحتاج إلى من يغربل هذه الأفكار، ويجدد فيها بما يتلاءم مع القيم الدينية والأخلاقية. ويلمس كل متابع للساحة الفكرية الحاجة إلى التجديد والتطوير، وصياغة خطاب فكري وثقافي قادر على مواكبة لغة العصر، وإنتاج المزيد من الأفكار الجديدة القادرة على مواكبة مستحدثات العصر، والإجابة على إشكالياته وتساؤلاته وشكوكه.
ومجلة الكلمة ساهمت ـ إلى حد ما ـ في هذا السياق، واهتمت بدرجة كبيرة بهذا الأمر؛ وإن كان التجديد مسألة تحتاج للمزيد من العطاء المتواصل، والتأمل العقلي الناقد، والقدرة على إنتاج أفكار جديدة.
المحور الثاني-اهتمامات مجلة الكلمة:
المتابع لمجلة الكلمة يلاحظ تركيزها على مواضيع مهمة تكشف اهتماماتها الفكرية التي أخذت مساحة واسعة على صفحاتها والتي أبرزها ما يلي:
1 ـ تناول القضايا لكبرى للمسلمين:
اهتمت مجلة الكلمة بتناول القضايا الكبرى للمسلمين، ولم تنزل إلى القضايا الصغرى أو المسائل الخلافية الحادة، بل ركزت على ما يُشغل العقل المسلم في كل مكان، وتناولت قضايا المسلمين الفكرية والثقافية ذات الأهمية الكبرى كمسألة الحضارة الإسلامية، والفكر الإسلامي في ظل التحديات الفكرية الكبرى، وثنائية التراث والحداثة، والاجتهاد والتجديد، والتغيير والجمود، وحقوق الإنسان، والمواطنة... وغيرها من المواضيع التي تشغل بال المسلمين في كل مكان.
2ـ التعريف بالأعلام والمفكرين:
التعريف بالأعلام والمفكرين من مختلف المذاهب الإسلامية، ومن مدارس فكرية متعددة، من أهم المواضيع التي لاقت اهتماماً لافتاً في مجلة الكلمة، فقلما يخلو أي عدد من أعدادها عن التعريف بشخصية بارزة من الأعلام المتميزين.
فقد تناولت المجلة شخصيات وأفكار كوكبة من الأعلام، منهم: السيد محمد باقر الصدر، الإمام شرف الدين، الإمام موسى الصدر، الإمام الشيرازي، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، محمد إقبال، الشيخ محمد عبده، الشيخ محمد جواد مغنية، مالك بن نبي، مرتضى مطهري.. وغيرهم من الأعلام والمفكرين الذين تركوا بصمات واضحة في الفكر والثقافة.
3ـ الوحدة الإسلامية:
من المواضيع التي اهتمت المجلة بها مسألة الوحدة الإسلامية والتقريب بين أتباع المذاهب الإسلامية المختلفة، باعتبار أن الوحدة هي السبيل نحو عزة وقوة المسلمين، وأن الفرقة تؤدي إلى الضعف والتخلف، ولذلك أمرنا الله تعالى بالاعتصام بحبله، ونهانا عن التفرق والتشتت، يقول تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾.
والوحدة الإسلامية لا تعني إلغاء الخصوصيات الدينية والمذهبية والفكرية، وإنما تعني التوحد في إطار التنوع، والحفاظ على التنوع في دائرة التوحد والوحدة.
ونقرأ في مجلة الكلمة العديد من المواضيع التي اهتمت بموضوع الوحدة الإسلامية، فعلى سبيل المثال نجد في العدد ( 52 ) ملفاً كاملاً بعنوان: ( حوار المذاهب الإسلامية في المملكة العربية السعودية ) وقد ضم مجموعة من العناوين المهمة في هذا السياق. ونقرأ في العدد ( 40 ) ملفاً عن ( الأنا والآخر والصورة النمطية ) شمل مجموعة من المواضيع التي تدخل في سباق فهم الآخر المخالف.
4ـ مناقشة الفكر الغربي:
بين الفينة والأخرى يطرح بعض المفكرين الغربيين نظريات فكرية، أو أفكار مثيرة للاهتمام والجدل، وكان لمجلة الكلمة رصد لتلك النظريات والأفكار التي يقدمها مفكرون غربيون، ويكون من الأهمية مناقشتها ونقدها؛ حتى لا تؤثر سلباً على العقول والأفكار.
وعلى سبيل المثال نشير إلى مناقشة المجلة لبعض تلك النظريات الفكرية، فنقرأ في العدد ( 47 ) ملفاً بعنوان: ( الإيديولوجيا.. الإشكال المعرفي والوظيفة الاجتماعية ) تناول فيه كاتبوه مجموعة من النظريات عند بعض مفكري الغرب فيما يخص الإيديولوجيا، وإن كان يغلب عليه العرض دون النقد وهو ما نحتاجه في مثل تناول هذا الموضوع الهام. كما نجد في نفس العدد حواراً مع البروفيسور ( فرنسيس فوكوياما ) صاحب نظرية نهاية التاريخ.
ونقرأ في العدد ( 44) مراجعة لنظرية ( هينتغتون ) والتي تسمى بـ( صراع الثقافات ) أو صراع الحضارات.. وفي العدد ( 50 ) نقرأ عن المستشرق البريطاني ( هاملتون جيب ) ومناقشة ما قدمه في ميدان الأدب والدين والتاريخ.
وهكذا نجد أن مجلة الكلمة أولت عناية بالنظريات الغربية في مجال الفكر والثقافة، وعرضها ونقدها ومناقشتها، وإخضاعها للتقويم العلمي الهادئ.
5ـ تغطية الأنشطة الفكرية والثقافية:
قامت مجلة الكلمة وعلى مدى سنوات عمرها بتغطية الأنشطة والناشط الفكرية والثقافية من ندوات ومؤتمرات ومحاضرات فكرية وثقافية ضمن عنوان: (متابعات وتقارير). كما تقوم المجلة بإيراد وتعريف بالإصدارات الحديثة المهمة والتي لها بعد ثقافي وفكري ضمن عنوان: (إصدارات حديثة)... وهو الأمر الذي يجعل القارئ على تواصل مع الحركة الثقافية في مختلف بلدان العالم.
وخلاصة القول
إن المجلة استطاعت أن تشق طريقها إلى مختلف بلدان العالم، وأن تصل إلى النخبة الفكرية أينما كانوا، وأن تساهم في صناعة الفكر والثقافة. وأظن أن هذه المجلة الفكرية المحكمة بحاجة ـ بعد أن بلغت سن العشرين ـ إلى المراجعة والتقويم العلمي بهدف التجدد والتطور كي تستطيع مواصلة طريقها بثبات وقوة في عالم أصبح فيه صناعة المعرفة يخضع لمنافسة قوية، لكن يبقى الاستمرار والبقاء للفكر الحي والمتجدد، والقادر على مواكبة مستجدات الزمان ومتغيرات المكان، مع الاعتماد على لغة العلم، ومنطق الدليل والبرهان.
ويكفي مجلة الكلمة فخراً استمرارها لعشرين عاماً رغم قلة إمكانياتها، واستقلالها الاقتصادي، لكن قوة ما يطرح فيها من أفكار، وهمة وإرادة المشرفين عليها، ساهم في بلوغها لعقدين من الزمن لم تنقطع رغم حوادث الزمان، وطوارق الحدثان، وعلى أمل أن تحتفل بمرور مئة عام على صدورها، وأن تتحول إلى مؤسسة مكتملة البنيان بما يضمن استمرارها وبقاءها.
والله المستعان