الحج وتربية النفس
الشيخ عبدالله اليوسف - 12 / 11 / 2010م - 7:57 م
ولا شك أن للحج تأثيراً قوياً جداً في تطهير النفس من ذمائم الأخلاق كالغرور والتكبر والزهو والعجب، يقول الإمام علي: (( جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزته )) (1 ) فالجميع في الحج سواء، فلا فرق بين شريف ووضيع، ولا بين غني وفقير، ولا بين سيد ومسود، فلا وجود للاعتبارات الدنيوية، وإنما الاعتبار الوحيد هو للتقوى ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ ( 2).
وبمجرد وصول الحاج إلى الميقات، يخرج من الملذات الجسمية ليمتلئ بالملذات المعنوية والروحية، فيُحرِم، وعندئذٍ عليه الالتزام بمحظورات الإحرام، واجتناب كل الملذات المحددة، فيحرم جسده من اللباس الراقي ليلبس لباساً متواضعاً وبسيطاً، ويُحرَم عليه شم الروائح الطيبة كالزعفران والمسك والعطر بجميع أنواعه، وممارسة الشهوات كالجماع والتقبيل واللمس، والتزين بأدوات الزينة كالاكتحال والتدهين، واللَّهو بالصيد البري أو قطع شجر ونبات الحرم، والتظليل حال السير .. الخ.
وبالملاحظة الدقيقة نكتشف أن لكل منسك وعمل في الحج أثره في تكميل النفس الإنسانية، وفي التحليق بالإنسان نحو مدارج العرفان والسمو الروحي، فالوقوف بعرفات والمزدلفة ومنى، والطواف حول البيت، والسعي بين الصفا والمروة، كلها مواقف قدسية، ومقامات مقدسة، وأعمال عبادية توقيفية، تقرب العبد إلى خالقه عزّ وجلّ، فيعود الحاج بعد انتهاء مناسك الحج بغفران ذنوبه كيوم ولدته أمه، وبرضا اللَّه تعالى عنه، وهو غاية الغايات، يقول الإمام علي: (( وقفوا مواقف أنبيائه، وتشبهوا بملائكته المطيفين بعرشه، يُحرزون الأرباح في متجر عبادته، ويتبادرون عند موعِدِ مغفرته )) (3 ).
ولن يفوز بثواب الحج إلا من تجرد عن كل شيء سوى طاعة اللَّه تعالى، والخشوع والخضوع لعظمته حلَّ جلاله، يقول الإمام الصادق في حديث رائع وجميل جداً:
(( إذا أردت الحج فجرد قلبك لله من قبل عزمك من كل شاغل وحجاب كل حاجب،وفوض أمورك كلها إلى خالقك، وتوكل عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك، وسلم لقضائه وحكمه وقدره، وودع الدنيا والراحة والخلق، واخرج من حقوق تلزمك من جهة المخلوقين، ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك وقوتك وشبابك ومالك، مخافة أن يصير ذلك عدواً ووبالاً، قال: من ادعى رضا الله واعتمد على شيء سواه صيره عليه عدواً ووبالاً، ليعلم أنه ليس له قوة ولا حيلة ولا لأحد إلا بعصمة الله وتوفيقه، واستعد استعداد من لا يرجو الرجوع، وأحسن الصحبة، وراع أوقات فرائض الله وسنن نبيه وما يجب عليك من الأدب والاحتمال والصبر والشكر والشفقة والسخاء وإيثار الزاد على دوام الأوقات.
ثم اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك..
والبس كسوة الصدق والصفاء والخضوع والخشوع.
وأحرم من كل شيء يمنعك من ذكر الله ويحجبك عن طاعته.
ولبِّ بمعنى إجابة صافية خالصة زاكية لله عزّ وجلّ في دعوتك متمسكاً بالعروة الوثقى.
وطف بقلبك مع الملائكة حول العرش كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت.
وهرول هرباً من هواك تبرياً من جميع حولك وقوتك.
واخرج عن غفلتك وزلاتك بخروجك من منى ولا تتمن ما لا يحل لك ولا تستحقه..
واعترف بالخطايا بعرفات.. وجدد عهدك عند الله بوحدانيته، وتقرب إلى الله واتّقه بمزدلفة.. واصعد بروحك إلى الملأ الأعلى بصعودك إلى الجبل..
واذبح حنجرة الهواء والطمع عند الذبيحة..
وارم الشهوات والخساسة والدناءة والأفعال الذميمة عند رمي الجمرات.
واحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك..
وادخل في أمان الله وكنفه وستره وكلاءته من متابعة مرادك بدخولك الحرم.
وزر البيت متحققاً لتعظيم صاحبه ومعرفة جلاله وسلطانه..
واستلم الحجر رضاء بقسمته وخضوعاً لعزته..
وودع ما سواه بطواف الوداع..
واصف روحك وسرك للقاء الله يوم تلقاه بوقوفك علىالصفا..
وكن ذامروَّة من الله تقياً أوصافك عند المروة..
واستقم على شرط حجتك ووفاء عهدك الذي عاهدت به مع ربك وأوجبت له إلى يوم القيامة )) ( 4).
وعندما يلتزم الحاج بهذه التعليمات القيمة، والتوصيات الهامة، فإنه يعود من الحج وقد حاز على قبول حجه، وفاز بالثواب والأجر الجزيل، وحصل على رضا خالقه عنه، كما أنه يعود من الحج وقد طهَّر نفسه من الرذائل المادية والمعنوية، واكتسب السمات السلوكية السوية.. وهذه من أهم حِكَم الحج.
الهوامش:
(1 ) نهج البلاغة، ج1، ص81، خطبة رقم 1.
(2 ) سورة الحجرات، 13.
(3 ) نهج البلاغة، ج1، ص81، رقم الخطبة 1.
(4 ) البحار، ج96، ص124، رقم 1.
1/12/1425