يدعو الإسلام إلى التحلي بنهج (اللاعنف) في جميع شؤون الحياة الخاصة والعامة، فالإسلام يعتبر السلم والسلام واللاعنف هو الأصل، وما عداه استثناء يؤكد هذا الأصل الأولي.
ولا يقتصر نهج اللاعنف على جانب دون آخر، أو بعد دون آخر، بل يشمل جميع أبعاد الحياة كبناء الكيان الأسري، وبناء المجتمعات الإنسانية، وبناء الفكر والثقافة، وبناء التعليم والتربية، وبناء العلاقات الدولية بين الدول والأمم المختلفة.
ومن أسماء الله تعالى السلام، وشعار الإسلام هو السلام، فالتحية بالسلام عليكم، ونختم الصلاة بالسلام عليكم، ومن يدخل الجنة تستقبله الملائكة بالسلام عليكم!
ثم إن الإسلام قائم على الدعوة إلى اللاعنف والحكمة والسلم والسلام كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾[1] وقوله تعالى: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾[2] فهذا هو الأصل وما عداه استثناء وضرورة.
ويحرص الإسلام أشد الحرص على التعامل برفق ولين ورحمة مع الإنسان في مختلف مراحل حياته؛ بل حتى في حالة الموت، فقد قال الإمام الصادق لأحد أصحابه وهو يبين له كيفية تغسيل الميت ما نصه: «واغْسِلْه بِرِفْقٍ وإِيَّاكَ والْعُنْفَ واغْسِلْه غَسْلاً نَاعِماً»[3] فاللازم على مكرمي الموتى الانتباه إلى هذه الملاحظة المهمة، وفي كلام الإمام الصادق دلالة قوية على وجوب احترام الإنسان سواء كان حياً أم ميتاً.
وقد حثَّ الإسلام في تعاليمه كثيراً على التجمل بأخلاقيات اللاعنف والتسامح كالرفق والصفح والعفو والرحمة والشفقة واللين؛ فقد قال رسول الله : «إنّ الرِّفقَ لَم يُوضَعْ على شيءٍ إلّا زانَهُ، ولا نُزِعَ مِن شَيءٍ إلّاشانَهُ»[4] وقوله : «الرِّفْقُ يُمنٌ والخُرقُ شُؤمٌ»[5] وقوله : «الرِّفقُ نِصفُ المَعِيشَةِ»[6] وقوله : «إنّ في الرِّفقِ الزِّيادَةَ والبَرَكَةَ، ومَن يُحرَمِ الرِّفقَ يُحرَمِ الخَيرَ»[7] وقال الإمام علي : «كُن ليّناً من غير ضعف شديداً من غير عُنْف»[8] وقال الإمام علي : « الرِّفقُ يُؤَدِّي إلى السِّلْمِ»[9] وقال الإمام الباقر : « إنّ اللَّهَ عزّوجلّ رفيقٌ يُحِبُّ الرِّفقَ ويُعطِي على الرِّفقِ ما لا يُعطِي على العُنفِ»[10] .
وفي الوقت التي تؤكد الوصايا والتعاليم الدينية على الرفق ونبذ العنف والتسامح تنهى بشدة عن بذاءة اللسان والفحش في الكلام، فعن النبي قال: « إيّاكُم والفُحشَ؛ فإنّ اللَّهَ عَزَّوجلَّ لا يُحِبُّ الفاحِشَ المُتَفَحِّشَ»[11] . وعنه قال: «إنّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كلَّ فاحِشٍ مُتَفَحِّشٍ»[12] . وعنه قال: «الجَنَّةُ حَرامٌ على كُلِّ فاحِشٍ أن يَدخُلَها»[13] . وعنه قال: «لا تَسُبُّوا الناسَ فَتَكتَسِبُوا العَداوةَ بَينَهُم»[14] . وقال الإمامُ الباقرُ: «إنَّ اللَّهَ يُبغِضُ الفاحِشَ المُتَفَحِّشَ»[15] . وعنه أيضاً: «سِلاحُ اللِّئامِ قَبيحُ الكلامِ»[16] .
ومن يطالع الكتب الأخلاقية يعرف أن السلم واللاعنف والتسامح والرفق سمة بارزة من سمات الأنبياء والأئمة والعلماء والمصلحين والعقلاء والحكماء.
والشواهد والأمثلة من سيرة رسول الله وأئمة أهل البيت الأطهار كثيرة في إثبات أن منهجهم الأساس في الحياة هو (اللاعنف) ونبذ العنف بكل صوره وأشكاله وأقسامه وأنواعه.
وقد كان الإمام الحسين مثالاً وأنموذجاً للتسامح واللاعنف والرفق، إذ يذكر لنا التاريخ أن رجلاً قال للإمام الحسين: إن فيك كبراً!
فقال له الإمام الحسين: «كل الكبر لله وحده، ولا يكون في غيره،[17] قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ »[18] .
لقد تعامل الإمام الحسين مع هذا الناقد المخطئ بكل لطف ورفق، ولم يشتمه أو يرد عليه بما لا يليق، بل أجابه بكل رحابة صدر مبيناً له خطأ انتقاده للإمام بأن الكبر لا يكون إلا لله تعالى، وأن الإمام فيه عزة المؤمنين وصلابة الإيمان.
وفي موقف آخر يتضح بجلاء التسامح الإنساني عند الإمام الحسين ورحمته وشفقته ورفقه حتى بأعدائه، فعندما أدركه الجيش الأموي بقيادة الحر بن يزيد الرياحي ومعه ألف فارس للقبض عليه ورأى ما حل بهم من ألم العطش الشديد، أمر الإمام الحسين بإسقائهم الماء، وأن يرشفوا الخيول ترشيفاً.
وفيما يتعلق بواقعة كربلاء الأليمة فإن الثابت أن الإمام الحسين قد فرضت عليه الحرب، ولم يكن طالباً لها، ورفض أن يبدأ الجيش الأموي بالحرب، فعندما أراد مسلم بن عوسجة أن يبدأ بالحرب قال له الإمام الحسين : «إني أكره أن أبدأهم بقتال»[19] .
وعلينا كمؤمنين الاقتداء والتأسي بالإمام الحسين من خلال التحلي بمنهج اللاعنف والتسامح في كل أبعاد الحياة مثل: اللاعنف في الحياة الأسرية والعائلية، اللاعنف في العلاقات الاجتماعية، اللاعنف بين المؤمنين، اللاعنف مع الآخر الديني أو المذهبي أو الفكري.
ومن مصاديق اللاعنف والتسامح التعامل برفق ولين وأدب مع من نختلف معهم في رأي أو فكرة خصوصاً إذا تعلق الأمر بالاختلافات العلمية الناتجة أساساً من اختلاف الفقهاء فيها.
كما أن من المفيد جداً الارتقاء بمستوى الخطاب الحسيني، والابتعاد عن كل ما يثير الخلاف والصراع والفرقة بين المؤمنين، والتسامح تجاه المسائل العلمية المختلف فيها، وأن تكون قضية الإمام الحسين مصدر توحيد وجمع لكلمة المؤمنين ووحدتهم وعزتهم وقوتهم وتماسكهم.
إننا مدعوون جميعاً إلى التحلي بفضيلة اللاعنف والتسامح قولاً وفعلاً وممارسة حتى تنتشر ثقافة اللاعنف في المجتمع، وتتحول إلى ثقافة عامة ومنهج سلوكي في الحياة.
[1] سورة البقرة، الآية: 208.
[2] سورة الأنفال، الآية: 61.
[3] فروع الكافي، ج 1، ص 139، رقم 4، باب غسل الميت. الوافي، ج 24، ص 319، رقم 24111.
[4] أصول الكافي: 2/ 119/ 6.
[5] أصول الكافي: 2/ 119/ 4.
[6] بحار الأنوار: 71/ 349/ 19.
[7] أصول الكافي: 2/ 119/ 7.
[8] عيون الحكم والمواعظ، ص 393.
[9] عيون الحكم والمواعظ، ص 31.
[10] أصول الكافي: 2/ 119/ 5.
[11] بحار الأنوار: 79/ 110/ 1.
[12] كنز العمّال: 8078.
[13] كنز العمّال: 8085.
[14] أصول الكافي: 2/ 360/ 3.
[15] أصول الكافي: 2/ 324/ 4.
[16] بحار الأنوار: 78/ 185/ 14.
[17] سورة المنافقون، الآية:8.
[18] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 44، ص 198، رقم13.
[19] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 45، ص 5.