كظم الغيظ صفة أخلاقية نبيلة، لا يتحلى بها إلا أصحاب النفوس الكبيرة، والقلوب النقية الصافية، وقد مدح الله سبحانه وتعالى من يتصف بها، فقال تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾[1] ، وقال تعالى: ﴿وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾[2] .
وكظم الغيظ عبارة عن التحلم، وهي تكلف الحلم ضد مسببات الغضب الشديد، فالغيظ يعني شدة الغضب؛ فمن كظم غيضه فقد أمسك نفسه وسيطر على أعصابه عند مهيجات القوة الغضبية، ولم يظهر غضبه لا بقول ولا بفعل، بل يمسكه ويسيطر عليه، وهذا معنى الكظم، وحتى يكون المرء كذلك يحتاج إلى ترويض النفس ومجاهدتها أشد المجاهدة.
وقد ورد في السنة الشريفة الحث على التحلي بصفة كظم الغيظ، فقد روي عن رسول اللَّهِ أنه قال: «مَن كَظَمَ غَيظاً مَلَأ اللَّهُ جَوفَهُ إيماناً»[3] ، وعنه قال: «ما تَجَرَّعَ عَبدٌ جُرعَةً أفضَلَ عِندَ اللَّهِ مِن جُرعَةِ غَيظٍ كَظَمَها للَّهِ ابتِغاءَ وَجهِ اللَّهِ»[4] ، ومن كتاب للإمام علي إلَى الحارثِ الهَمْدانيِّ- قال فيه: «وَاكظِمِ الغَيظَ، وتَجاوَزْ عندَ المَقدِرَةِ، واحلُمْ عندَ الغَضَبِ، واصفَحْ مَع الدَّولَةِ؛ تَكُنْ لكَ العاقِبَةُ»[5] ، وقال الإمامُ الباقرُ : «مَن كَظَمَ غَيظاً وهو يَقدِرُ على إمضائهِ حَشا اللَّهُ قَلبَهُ أمناً وإيماناً يومَ القِيامَةِ»[6] ، وقال الإمامُ الصّادقُ : «مَن كَظَمَ غَيظاً ولو شاءَ أن يُمضِيَهُ أمضاهُ، مَلَأ اللَّهُ قلبَهُ يومَ القِيامَةِ رِضاهُ»[7] .
قد نعبر عن الحلم بكظم الغيظ، أو عن كظم الغيظ بالحلم، لكن علماء الأخلاق قالوا: إن كظم الغيظ هو التحلم، أما الحلم فهو طبيعة ذاتية في الشخص لقدرته على ضبط انفعالاته.
«وقد يشتبه الحلم بكظم الغيظ، مع أن هناك فرقاً بينهما -كما أشار الغزالي- فكظم الغيظ هو التحلم، أي تكلف الحلم، وهذا يحتاج إلى مجاهدة شديدة، لما في الكظم من كتمان ومقاومة واحتمال، وأما الحلم فهو فضيلة أو خلق يصبح كالطبيعة، وهو دلالة كمال العقل واستيلائه على صاحبه، وانكسار قوة الغضب عنده، وخضوعها للعقل. ولكن هناك ارتباطاً بين الحلم وكظم الغيظ، لأن ابتداء التخلق بفضيلة الحلم يكون بالتحلم»[8] .
ولكن هذا لا يمنع عن القول أن الحلم قد يأتي بمعنى كظم الغيظ أيضاً، وهو ضبط النفس عند هيجان الغضب، فقد سأل أمير المؤمنين ابنه الإمام الحسين عن الحلم قائلاً له: يا بني ما الحلم؟
قال : « كَظْمُ الْغَيْظِ وَمِلْكُ النَّفْسِ »[9] .
وفي روايات أخرى أن كظم الغيظ هو أفضل الحلم وأكمله، فقد قال الإمامُ عليٌّ : «أفضَلُ الحِلمِ كَظْمُ الغَيظِ ومِلْكُ النَّفْسِ مَع القُدْرَةِ»[10] ، وعنه قال: «كَمالُ العِلمِ الحِلمُ، وكَمالُ الحِلمِ كَثرَةُ الاحْتِمالِ والكَظْمِ»[11] .
تميز الإمام موسى الكاظم بكظمه للغيظ، وبسعة الحلم حتى لقب بالكاظم، وأصبحت أشهر ألقابه، وذلك لحلمه الواسع، وصبره على ظلم الظالمين له، وعفوه عن المسيئين إليه، مما جعل بعضهم يتحولون إلى أصدقاء له بفضل سعة حلمه وعظيم صبره وكظمه لغيظه.
ويسجل لنا التاريخ العديد من الشواهد والأمثلة على كظم الغيظ عند الإمام موسى بن جعفر ومنها:
أولاً- زار عدوه في مزرعته:
روى الشيخ المفيد قال: أخبرني الشريف أبو محمد الحسن بن محمد، عن جده، عن غير واحد من أصحابه ومشايخه: أن رجلاً كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى ويسبه إذا رآه ويشتم علياً !
فقال له بعض جلسائه يوماً: دعنا نقتل هذا الفاجر، فنهاهم عن ذلك أشد النهي وزجرهم أشد الزجر، وسأل عن العمري، فذكر أنه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب فوجده في مزرعة، فدخل المزرعة بحماره، فصاح به العمري: لا توطئ زرعنا، فتوطأه أبو الحسن بالحمار حتى وصل إليه فنزل وجلس عنده وباسطه وضاحكه.
وقال له: كم غرمت في زرعك هذا؟
فقال له: مئة دينار.
قال: وكم ترجو أن تصيب فيه؟
قال: لست أعلم الغيب.
قال: إنما قلت لك: كم ترجو أن يجيئك فيه.
قال: أرجو فيه مائتي دينار.
قال: فأخرج له أبو الحسنصرة فيها ثلاث مئة دينار وقال: هذا زرعك على حاله، والله يرزقك فيه ما ترجو.
قال: فقام العمري فقبل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطه، فتبسم إليه أبو الحسن وانصرف.
قال: وراح إلى المسجد فوجد العمري جالساً، فلما نظر إليه قال: الله أعلم حيث يجعل رسالاته.
قال: فوثب أصحابه إليه فقالوا: ما قصتك؟ قد كنت تقول غير هذا.
فقال لهم: قد سمعتم ما قلت الآن، وجعل يدعو لأبي الحسن فخاصموه وخاصمهم.
فلما رجع أبو الحسن إلى داره قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمري: أيما كان خيراً ما أردتم أو ما أردت؟ إنني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم وكفيت به شره[12] .
ثانياً- يغدق المال على من يسيئ إليه:
كان من عظيم حلم الإمام الكاظم أنه كان يغدق على من يسيء إليه المال، فقد روى أبو الفرج في مقاتله عن أحمد بن محمد بن سعيد، عن يحيى بن الحسن، قال : كان موسى بن جعفر إذا بلغه عن الرجل ما يكره بعث إليه بصرة دنانير، وكانت صراره ما بين الثلاثمائة إلى المائتين دينار فكانت صرار موسى مثلاً[13] .
ثالثاً- ادعى أن البغلة له فأعطاه إياها:
من الشواهد التي يدل على سعة حلمه وكظمه لغيظه: أن رجلاً ادعى أن البغلة التي كان يركبها الإمام الكاظم له، فنزل الإمام عنها، وأعطاها إليه دون أن يناقشه فيما قال، أو يغضب لادعائه الباطل، فعن حماد بن عثمان قال: بينما موسى بن عيسى في داره التي في المسعى، يشرف على المسعى، إذ رأي أبا الحسن موسى مقبلاً من المروة على بغلة، فأمر ابن هياج - رجل من همدان منقطعاً إليه - أن يتعلق بلجامه ويدعي البغلة، فأتاه فتعلق باللجام وادعى البغلة، فثنى أبو الحسن رجله ونزل عنها، وقال لغلمانه: خذوا سرجها وادفعوها إليه.
فقال: والسرج أيضاً لي!
فقال: كذبت عندنا البينة بأنه سرج محمد بن علي، وأما البغلة فإنا اشتريناها منذ قريب، وأنت أعلم وما قلت[14] .
رابعاً- وهبه ضيعة رغم خطئه الكبير:
وحلم الإمام الكاظم وكظمه للغيظ قد يجتمع مع الكرم رغم شدة الموقف، وشدة ما حدث، فقد روى ابن أبي الحديد المعتزلي:
إن عبداً لموسى بن جعفر قدم إليه صحفة فيها طعام حار، فعجل فصبها على رأسه ووجهه، فغضب، فقال له: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ﴾، قال: قد كظمت، قال: ﴿ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ﴾ قال : قد عفوت، قال: ﴿ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾، قال: أنت حر لوجه الله، وقد نحلتك ضيعتي الفلانية[15] .
خامساً- يتعامل مع العبيد بمنتهى الإنسانية:
ومرة أخرى يروي لنا التاريخ عن حلمه العظيم مع كرمه وعفوه، فقد روى الشيخ الكليني عن معتب قال: كان أبو الحسن موسى في حائط له يصرم فنظرت إلى غلام له قد أخذ كارة من تمر فرمى بها وراء الحائط، فأتيته وأخذته وذهبت به إليه.
فقلت: جعلت فداك إني وجدت هذا وهذه الكارة.
فقال للغلام: يا فلان...!
قال: لبيك.
قال: أتجوع؟
قال: لا يا سيدي.
فقال فتعرى؟
قال: لا يا سيدي.
قال: فلأي شيء أخذت هذه؟
قال: اشتهيت ذلك.
قال: اذهب فهي لك. وقال: خلوا عنه[16] .
سادساً- يوصي أولاده بكظم الغيظ والعفو:
كان الإمام الكاظم يوصي أولاده دائماً بالتحلي بصفة كظم الغيظ وسعة الحلم، وقبول عذر من يعتذر، والصفح عن المسيء، فقد روي أن موسى أحضر ولده يوماً فقال لهم: «يا بني إني موصيكم بوصية فمن حفظها لم يضع معها: إن أتاكم آت فأسمعكم في الأذن اليمنى مكروهاً ثم تحول إلى الأذن اليسرى فاعتذر وقال: لم أقل شيئاً فاقبلوا عذره»[17] .
وهكذا كان الإمام موسى الكاظم مثالاً في سعة الحلم، وكظم الغيظ، والعفو عن المسيء، بل والإحسان إليه، وإكرامه بالمعروف، وقضاء حاجته، وبهذه الأخلاق الراقية استطاع أن يكسب بعض أعدائه، ويحولهم إلى أصدقاء وأصحاب إليه بفضل حلمه وكرمه.
إن علينا أن نتعلم درساً من سيرة الإمام موسى بن جعفر الكاظم في السيطرة على الغضب، والتحكم في النفس، وضبط الانفعالات، والتحلي بكظم الغيظ وسعة الحلم ورحابة الصدر.
وكظم الغيظ يعبر عن سمو في الأخلاق، وتهذيب للنفس، وترويض للقوة الغضبية، وتغليب للعقل والمنطق والحكمة، ومن يتحلى بهذه الصفة الأخلاقية الرفيعة يكون محبوباً عند الله تعالى، وعند الناس.
أما من يغضب لأتفه الأسباب، ويهيج لأقل خطأ سواء مع عائلته أو أصدقائه أو زملائه أو أبناء مجتمعه فإنه يكون مبغوضاً عندهم، كما ينفر الناس منه، فلا يبقى له صديق ولا حميم.
إن كثيراً من المشاكل الزوجية والعائلية والاجتماعية تقع نتيجة شدة الغضب، وعدم الحلم والتحلم، ولذلك ورد النهي الشديد عن الغضب، يقول الإمامُ عليٌّ : «إيّاك والغَضَبَ، فَأوَّلُهُ جُنونٌ وآخِرُهُ نَدَمٌ»[18] ، ويقول الإمامُ الصّادقُ عليه السلام: «مَن لَم يَملِكْ غَضَبَهُ لَم يَملِكْ عَقلَهُ»[91] ، فعليكم بكظم الغيظ وسعة الصدر، وإياكم والغضب فآخره ندم وحسرة.
[1] سورة آل عمران، الآية: 134.
[2] سورة الشورى: 37.
[3] بحار الأنوار: 66/ 382/ 44.
[4] كنز العمّال: 5819.
[5] نهج البلاغة: الكتاب 69.
[6] الكافي: 2/ 110/ 7.
[7] بحار الأنوار: 68/ 411/ 25.
[8] موسوعة أخلاق القرآن، د. أحمد الشرباصي، دار الرائد العربي، بيروت – لبنان، الطبعة الثانية 1405هـ - 1985م، ج1، ص183.
[9] مستدرك الوسائل، الميرزا حسين النوري الطبرسي، ج 9، ص 11، رقم 10056.
[10] غرر الحكم: 3183.
[11] غرر الحكم: 7231.
[12] الإرشاد، الشيخ المفيد، ص 289 – 290. مقابل الطالبيين، ص 499 - 500.
[13] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 48، ص 104. مقاتل الطاليين، ص 499.
[14] الوسائل، الحر العاملي، ج 27، ص 291، رقم 33778.
[15] شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج18، ص 46.
[16] أصول الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 116، رقم 7.
[17] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 68، ص 425.
[18] غرر الحكم: 2635.
[19] الكافي: 2/ 305/ 13.