سماحة الشيخ عبدالله اليوسف (1440هـ - 2018م)
|
تحدث سماحة الشيخ الدكتور عبدالله أحمد اليوسف عن مبادئ التسامح في سيرة وحياة الإمام الحسين ، جاء ذلك في محاضرة ألقاها في حسينية الحجة بمدينة القطيف في الليلة الأولى من محرم 1441هـ - 2019م. وذكر سماحته بأن فضيلة التسامح من الفضائل الأخلاقية الكبرى التي دعا إليها الإسلام وحثّ أتباعه إلى التحلي بقيم ومبادئ وأخلاقيات التسامح في جميع صوره وأشكاله.
وعبّر سماحته في محور حديثه الأول بأن التسامح هو مزيج ما بين الفكر والأخلاق، فتاره يتم التركيز على التسامح من زاوية أخلاقية، وتعني تطبيق مفاهيم ومعاني التسامح الأخلاقي في التعامل والسلوك مع الآخرين. أما مفهوم التسامح من الزاوية الفكرية فهي التعامل مع نظريات وأفكار وآراء الناس على صعيد النظر والفكر.
وبعدها شدد اليوسف على فضيلة التسامح كركيزة أساسية يدعو إليها الدين الإسلامي مستدلاً علي ذلك بقوله تعالى: ﴿وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾، بالإضافة إلى الأحاديث والروايات الكثيرة التي تشير إلى أهمية وضرورة التسامح مع المخطئين والمسيئين.
ثم تطرق سماحته إلى مستويات التسامح انطلاقاً من الآية المباركة، فالمستوى الأول هو العفو وهو ترك العقاب تجاه المخطئ والمسيء بحقك.
أما المستوى الثاني للتسامح فهو الصفح ويعني ترك العقاب مع عدم اللوم والتوبيخ والذم تجاه الإنسان المخطئ.
أما المستوى الثالث للتسامح فهو الغفران وهو يعني ترك العقاب مع عدم اللوم والتوبيخ وعلاوة على ذلك محو أخطاء الآخرين من الذاكرة، وهذا أفضل مستويات التسامح وأعلاها. فإذا كان الله تبارك وتعالى بجلاله وعظمته يغفر للمذنبين والمخطئين والمسيئين من عباده، أليس من الأولى لنا أن نعفو عن المخطئ ونصفح عنه ونغفر له زلاته؟!
وتحدث سماحة الشيخ اليوسف في محوره الثاني عن معنى التسامح لغة بصورة مختصرة ويعني التساهل، فضلاً عن المعاني الأخرى وهي الكرم والجود والعطاء.
أما في الاصطلاح فتوجد تعاريف متعددة، ولكن يمكن القول بصورة مختصرة أنه: السماح للآخر في حق الاختلاف واحترام المختلف وقبول ما يترتب عليه من نتائج، فعندما نقر بمبدأ التسامح فإننا نقر بحق الآخرين في الاختلاف وحقهم في الحياة بنحو مختلف عن الذات.
وبعدها ذكر سماحته في محوره الثالث من حديثه عن التسامح بين يدي الحسين قائلاً بأن الإمام الحسين سار على نهج جده الرسول الأكرم وأبيه أمير المؤمنين الإمام علي ، فقد ضربوا أروع الأمثلة وأجمل الصور في التسامح وبالخصوص تجاه من أساء إليهم. فقد أثنى المولى عز وجل في كتابه الكريم على نبيه بالخلق العظيم ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، فالإمام الحسين كان يحث على التحلي بالأخلاق الحسنة ويعتبرها جزءاً من العبادة، إذ يقول «الْخُلُقُ الْحَسَنُ عِبادَةٌ »؛ وكان يحث الناس على التسارع والتنافس في التحلي بمكارم الأخلاق.
وبعدها أشار سماحة الشيخ اليوسف إلى بعض صور التسامح الأخلاقي عند الإمام الحسين ، مبتدئاً بتعامله بلطف تجاه من أساء إليه أو أخطأ بحقه، فقد كان لطيفاً ومتسامحاً مع من يخطئ بحقه، فقد قال رجل للحسين إن فيك كبرا، فقال له الإمام : إن الكبر كله لله وحده ولا يكون في غيره، إن فيّ عزة، وتلا قول الله تعالى ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾، فالإمام الحسين تعامل مع هذا الناقد المخطئ بكل لطف ورفق وتسامح، ولم يغضب أو يرد عليه بما لا يليق، بل أجابه بكل رحابة صدر مبيناً له خطأ انتقاده للإمام بأن الكبر لا يكون إلا لله تعالى، وأن ، الإمام فيه عزة المؤمنين وصلابة الإيمان.
وذكر اليوسف صورة أخرى من التسامح لدى الإمام الحسين وهي قبول العذر تجاه من أخطاء بحقه، فينقل الإمام زين العابدين عن أبيه الإمام الحسين عليهما السلام، يقول: «لَو شَتَمَني رَجُلٌ في هذِهِ الاذُنِ- وأومَأَ إلَى اليُمنى- وَاعتَذَرَ لي فِي الاخرى، لَقَبِلتُ ذلِكَ مِنهُ».
فالبعض عندما يخطئ أحد بحقه لا يسامحه ولا يقبل عذره بل تحدث القطيعة والعداوة والشحناء والبغضاء معه، ولربما حدث ما هو أكثر من ذلك من شتم وسب وضرب وعنف، في حين أن الإمام الحسين يدعو إلى التسامح مع المخطئ وقبول العذر من الآخرين.
وأشار سماحته إلى أن الإمام الحسين كان كثير العفو والصفح عن المسيئين إليه، فيروى أن الإمام الحسين كان عنده غلام وقد ارتكب جناية استحق عليها العقاب فأمر الإمام الحسين أن يؤدب،فقال الغلام: يا مولاي ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾. قال: خلوا عنه. فقال: يا مولاي ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾. قال: قد عفوت عنك. قال: يا مولاي ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾. قال: أنت حر لوجه الله، ولك ضعف ما كنت أعطيك . فالإمام الحسين لم يكتفِ بكظم الغيظ والعفو عن الغلام المسيء الذي يستحق العقوبة بل أعتقه وأكرمه وضاعف له العطاء وأحسن إليه.
وتساءل سماحته: فكيف بنا الحال إن أخطأ أحد من عائلتك أو أقربائك أو أصدقائك أو من حولك تجاهك؟ داعياً إلى التمسك بقيم التسامح في جميع الأحوال والأوقات وفي كل شؤون الحياة، وخصوصاً مع الأهل والأقارب والأرحام والجيران والأصدقاء والزملاء.
أما في المحور الرابع فذكر سماحة الشيخ اليوسف صور من التسامح الإنساني عند الإمام الحسين معرفاً مفهوم التسامح الإنساني بقوله: هو ما يكون الدافع فيه القيم الإنسانية المحضة من غير النظر إلى الدين أو المذهب أو العرق، بل إن التسامح يكون في هذه الصورة منطلقاً من مبدأ الإنسانية واحترام الإنسان.
وقال: امتاز الإمام الحسين بتسامحه الإنساني أيضاً، فالإمام الحسين ضحى بأغلى ما يملك وهي نفسه الشريفة من أجل إرساء القيم الإنسانية التي يؤمن بها جميع البشر. فقد دعا الحسين إلى تحقيق العدالة والكرامة والعزة واحترام الإنسان. لذا فإننا نجد الكثير من العقلاء والمفكرين في العالم من غير المسلمين يكتبون عن سيرة الإمام الحسين ، ويعجبون بشخصيته، وينبهرون بتضحياته العظيمة.
وأشار الشيخ اليوسف إلى صور من التسامح الإنساني لدى الإمام الحسين ، ومن هذه الصور الرائعة تسامح الإمام الحسين مع أعدائه وهو قمة التسامح، فعندما وصل الجيش الأموي بقيادة الحر بن يزيد الرياحي وكانوا ألف فارس ووقفوا في مكان نزل فيه الإمام الحسين كانوا في غاية العطش والظمأ وكادوا أن يموتوا من شدة العطش لكن الإمام الحسين بإنسانيته ورحمته ورأفته أمر أهل بيته وأصحابه أن يسقوا من جاؤوا لمحاربته وقتله الماء، ولم يكتفِ بذلك بل أمر بإسقاء الخيول وعلاوة على ذلك قام بنفسه الشريفة بإسقاء أحد الأعداء وعاونه وساعده على ذلك.
أما الشاهد الثاني من صور التسامح الإنساني فهو تسامحه مع خصومه، فأسامة بن زيد لم يبايع أمير المؤمنين ، ومع ذلك عندما علم الإمام الحسين بأنه في حالة المرض ذهب الإمام لعيادته وعندما دخل عليه قال أسامة بن زيد عندما رأى الإمام الحسين : واغماه! فقال له الإمام الحسين : مما غمك يا أخي؟ فقال أسامة: ديني ستون ألف درهم وأخشى أن أموت قبل سداده. فقال له الإمام الحسين : أنا أقضيه عنك. فقال: ولكن أخشى أن أموت قبل سداده. فقال له الإمام الحسين : لن تموت حتى أقضيه عنك، وبادر الإمام الحسين وسدد دينه. فنجد أن الإمام الحسين يذهب لزيارة مريض من خصومه؛ بل ويدفع عنه دينه ويكرمه ويحسن إليه، ويغض طرفه عن موقفه من أمير المؤمنين الخاطئ، وهذا يدل على مدى التسامح الذي كان ينتهجه الإمام الحسين .
أما في المحور الخامس من حديثه فقد أشار سماحة الشيخ اليوسف إلى التسامح الفكري عند الإمام الحسين ، وهو أن يكون الإنسان متسامحاً مع الآخرين تجاه الأفكار التي يختلف معهم حولها، فطبيعة البشر تختلف أفكارهم وتوجهاتهم وقناعاتهم، وعزز قوله بشاهد من التسامح الفكري لدى الإمام الحسين حين مدح القائل ونقد الفكرة، فقد قيل للإمام الحسين : إن أبا ذر يقول: الفقر أحب إليَّ من الغنى، والسقم أحب إليَّ من الصحة. فقال : رحم الله أبا ذر، أما أنا أقول: من وثق بحسن اختيار الله لم يختر غير ما اختار الله له.
وفي هذا النص نجد أن الإمام الحسين بدأ بمدح القائل ثم انتقد الفكرة بأسلوب جميل ومنطقي وموضوعي. وهنا يضرب الإمام الحسين أروع الأمثلة في التسامح الفكري الذي نحن في أمس الحاجة إليه الآن وهو منهج يجب أن يسلكه أهل الرأي والفكر والعلم.
ثم نقل سماحته شاهداً آخر من التسامح الفكري عند الإمام الحسين عندما قال عنده رجل: إن المعروف إذا أسدي إلى غير أهله ضاع. فقال الحسين : ليس كذلك، ولكن تكون الصنيعة مثل وابل المطر تصيب البر والفاجر . فشبّه الإمام فعل الخير بالمطر ينتفع به جميع الناس الصالح والطالح، والمؤمن وغير المؤمن، ثم إن الله سبحانه يجازي فاعل المعروف على فعله ويعطيه الثواب والأجر، ولا يذهب فعله سدى.
وختم سماحة الشيخ اليوسف بحثه في محوره الأخير بالحاجة للتسامح والدعوة إليه قائلاً: الحاجة للتسامح مطلب ديني وضرورة اجتماعية؛ فالمنهج الديني يؤكد عليه والواقع الاجتماعي يفرضه، فإن حقائق التنوع الفكري والثقافي والاجتماعي، والتعدد الديني والمذهبي، وتغاير التوجهات والنظريات والأفكار يدعونا إلى انتهاج نهج التسامح، ولا يمكن أن نعيش في سلام وأمن وأمان وألفة وانسجام إلا بالتحلي بمبادئ وقيم وأخلاقيات التسامح، وإن الاختلاف يجب أن لا يمنعنا من التعايش والتواصل والتعاون والتكامل والاحترام.
الجذير بالذكر أن الشيخ الدكتور عبدالله اليوسف قد نشر مؤخراً مؤلفاً بعنوان (الإمام الحسين ونهج التسامح) الطبعة الأولى 1440هـ - 2018م، وعدد صفحاته 216 صفحة من الحجم الكبير، وقد صدر عن (مركز العميد الدولي للبحوث والدراسات) التابع للعتبة العباسية المقدسة في كربلاء المقدسة بالعراق، وهو الإصدار الثالث والستون من كتبه المتنوعة في علوم ومعارف أهل البيت عليهم السلام.