سماحة الشيخ الدكتور عبدالله اليوسف
|
السلام عليكم أيها الصائمون القائمونفي الحلقة الأولى من مبادرة ناصر حسين المشرف «مع شخصيات الفكر والأدب»
والتي تناولت السيرة الذاتية للشيخ الدكتور عبدالله بن أحمد اليوسف حيث تعرفنا بشكل مختصر على جوانب كثيرة من حياته الفكرية والثقافية والمجتمعية وعناوين بعض كتبه ومؤلفاته القيمة.
في الحلقة الثانية سوف ندعو سماحته ان يبحر بنا في تجربته الدينية والإجتماعية
فلنستعد للإبحار معه... حيث يقول:
تدوين التجارب والمذكرات من الأمور التي لم تحظَ باهتمام كبير في عالمنا العربي والإسلامي، بالرغم من أهميتها وضرورتها سواء من باب التوثيق لحفظها، أو لتكون مصدر إلهام لمن يبحث عن الاستفادة من تجارب غيره، لأنها تحكي شيئاً من التجارب الحياتية والواقعية التي قد يستفاد منها، وخصوصاً لمن سلك نفس المسلك، وكما روي عن الإمام علي عليه السلام: «العَقلُ حِفظُ التَّجارِبِ، وخَيرُ ما جَرَّبتَ ما وَعَظَكَ» ، وعنه عليه السلام: «التَّجارِبُ عِلمٌ مُستَفادٌ»، وعنه عليه السلام: «كُلُّ مَعرِفَةٍ تَحتاجُ إلَى التَّجارِبِ».
وانطلاقاً من ذلك، وبطلب من الأخ الاستاذ/ ناصر المشرف (دام موفقاً)، سأكتب بعضاً من حكايتي كطالب علم خاض معترك الحياة الدينية والاجتماعية والثقافية مع ما في ذلك من آلام وآمال، ونجاح وفشل، وصعود ونزول، وما يفرح وما يحزن، وما يبهج النفس وما يضيق به الصدر!
ولأن الحكاية تطول، لأنها تمتد لما يقرب من أربعين عاماً، مضت بسرعة كما يمضي البرق، تخللتها فترات من السفر لطلب العلم والمعرفة، قد تطول أو تقصر، ولأن الوقت لا يسمح بنسج كل فصول الحكاية، أقتصر على ذكر بعض قصصها.
وعسى أن يأتي الوقت المناسب، إن كان للعمر بقية، في إكمال باقي الحكاية والقصة.
بعد فترة من السفر امتدت لعدة سنوات متواصلة في طلب العلم في الحوزة العلمية رجعت للبلد، وبدأت مشواري الديني والاجتماعي والثقافي، وقد بدأتُ إماماً للجماعة في مسجد الإمام الحسن بمدينة القطيف والذي استمر لعدة أشهر، ثم صليت إماماً للجماعة في مسجد الإمام الهادي (الوادي) في الحلة بالقطيف، واستمر بي الحال من عام 1410هـ حتى عام 1430هـ، وبعد الانتهاء من بناء مسجد الرسول الأعظم في نفس المنطقة وافتتاحه في عام 1430هـ، أصبحت إماماً للجماعة فيه، وكنت – ولا زلت - في كل جمعة ألقي حديث الجمعة، وقد كنتُ سابقاً ألقي في عدة ليالٍ بحوثاً فقهية بعد الانتهاء من صلاة العشاءين في مسجد الإمام الهادي ، واستمر الحال على تلك الطريقة لسنوات وسنوات.
ورغم بعض المصاعب والمشاكل الاجتماعية وغيرها التي واجهتها في إقامة صلاة الجماعة في بداية الأمر، ولكني لم أتراجع عنها، ولم أستسلم لبعض العقبات التي كان الهدف منها التوقف عن إقامة الصلاة؛ فلم تكن الأمور مهيأة في ذلك الوقت، ولكنها مرحلة طويت وانتهت!
ولا يخلو أي طالب علم من مواجهة بعض المشاكل والعقبات خصوصاً في بداية مسيرته الاجتماعية والدينية؛ إما بسبب الحسد، أو التنافس غير الشريف، أو تضارب المصالح، وغير ذلك مما لا يحسن ذكره.
وهنا أسجل ملاحظة لعلها تفيد كل من ينوي أن يكون إماماً للجماعة، وهي: أن يصبر ويتحمل ما قد يواجهه في طريقه من عقبات ومنغصات، وألا يستسلم لمجرد بعض الإشكاليات كما قد رأينا وسمعنا حدوث مثل ذلك لبعضهم، إذ بمجرد أن تواجهه عقبة أو مشكلة أو سوء تفاهم مع أحد يترك صلاة الجماعة، وينعزل ويصلي في بيته!
والمطلوب هو الصبر، لأن عاقبته البشرى والخير، فقد بشر الله تعالى الصابرين بالحب والرحمة والرضا، كما في قوله تعالى: ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾.
ووعدهم بالنصر والتأييد كما في قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ وأعدَّ لهم الأجر والثواب الجزيل، كما يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
ولا يقتصر الصبر على إمامة صلاة الجماعة، وتحمل ما قد يلاقيه من صنوف الأذى إما عن جهل أو قصد أو غير ذلك، بل ينبغي لطالب العلم أن يكون صبوراً في كل أمور حياته حتى يستطيع أداء رسالته الدينية على خير وجه؛ فطلب العلم يحتاج إلى صبر، والبحث فيه يحتاج إلى صبر، والكتابة عن مسائله وموضوعاته يحتاج إلى صبر، وأداء رسالته الدينية والاجتماعية يحتاج إلى مزيد من الصبر.
دائماً ما نقول: الإسلام دين الأخلاق، وهو كذلك، ولكن يجب أن ينعكس هذا الأمر على تصرفاتنا وسلوكياتنا، بحيث نتعامل بأخلاق راقية مع من نختلف معهم لا أن نمر عليهم دون أن نسلم عليهم أو نترك مصافحتهم لمجرد خلاف في الرأي أو الفكر أو المنهج أو التقليد أو غير ذلك.
ومن نافلة القول إن على طالب العلم أن يكون في طليعة الناس من جهة التزين بمكارم الأخلاق قولاً وفعلاً، فيتعامل بأخلاق رفيعة، وأسلوب راقٍ مع عامة الناس، وإلا فإن أكبر العلماء من دون أخلاق يفقد قيمة من أهم قيم الإسلام الكبرى، لأن الأخلاق هي لباس العلماء، وزينة الحكماء.
ثم إن للأخلاق الحسنة ثماراً وآثاراً دنيوية وأخروية، فلا تقتصر آثار ه على الحياة الدنيا، بل تشمل الآخرة أيضاً، وقد أشار رسول الله إلى ذلك بقوله: «حُسنُ الخُلقِ ذَهَبَ بخَيرِ الدُّنيا والآخِرَةِ».
فمن أراد الخير في الدنيا فعليه بحسن الخلق، ومن أراد الخير في الآخرة فعليه بحسن الخلق، ومن أراد الخير فيهما معاً فعليه بحسن الخلق.
ومن الثمار والآثار المهمة لحسن الأخلاق أيضاً: كسب الكثير من المحبين والأصدقاء، فالنفوس تأنس بالإنسان الخلوق، وتنفر من سيئ الخلق، فكيف إذا كان عالماً؟! فقد روي عن أمير المؤمنين قوله: «مَن حَسُنَ خُلقُهُ كَثُرَ مُحِبّوهُ، وأنِسَتِ النُّفوسُ بهِ»، وعن رسول اللَّهِ قال: «حُسنُ الخُلقِ يُثْبِتُ المَودَّةَ».
أما من يتصف بسوء الأخلاق فلن تجد لديه أي صديق أو رفيق أو محب صادق ولو كان عالماً، فقد قال الإمام علي : «مَن ساءَ خُلقُهُ أعْوَزَهُ الصَّديقُ والرَّفيقُ».
وقد أكدت الأحاديث الشريفة على أن التزين بحسن الخلق يزيد في الرزق، فقد قال الإمام علي : «بحُسنِ الأخْلاقِ تُدَرُّ الأرْزاقُ» ، وعنه قال: «في سَعَةِ الأخْلاقِ كُنوزُ الأرْزاقِ».
وأما الإنسان الذي تكون أخلاقه سيئة فإن رزقه يضيق وفرصه للرزق تقل، فقد قال الإمامُ عليٌّ : «مَن ساءَ خُلقُهُ ضاقَ رِزْقُهُ».
ومن الواضح أن الإنسان صاحب الأخلاق الحسنة تكون فرصه للنجاح أكثر وأوسع في مختلف مجالات الحياة مما يزيد في إدرار رزقه وسعته، بينما سيئ الأخلاق يكون أقرب للتعثر والفشل، وبالتالي تضيق أمامه فرص الرزق، وسبل النجاح.
وأنهي هذه النقطة بالقول: نجد أن بعض طلبة العلم يحرزون الكثير من فرص النجاح الاجتماعي، ويعيشون في خير ورزق وفير، ويتمتعون بعدد كبير من المحبين والأصدقاء بسبب حسن أخلاقهم وطيب معاشرتهم للناس؛ والبعض الآخر قد لا تجد لهم صدى، ولا تسمع لهم حساً رغم أنهم أكثر – في بعض الأحيان- فضيلة من الناحية العلمية؛ ولكن لقلة مداراتهم للناس يفقدون حتى أقرب الناس إليهم!
يعد (تنظيم الوقــت) بصورة صحيحة وعلمية قاعدة مهمة لتحقيق النجاح لطالب العلم، كما هو لسائر الناس؛ فالتقدم والتطور، وصناعة النجاح على مختلف المستويات والنواحي، يفتقر إلى توظيف الوقت وإدارته بذكاء.
والمراد بـ ( اغتنام الوقــت) أن تغتنم كل فرصة متاحة قبل أن تذهب، وأن تدرك أهمية استثمار كل دقيقة من أجل أن تعطي أكثر، وأن تسعى للوصول للأهداف المرسومة بكل إخلاص وحماس واندفاع، وأن تنجز ما يمكن إنجازه في اقل وقــت متاح.
والتحدي الحقيقي الذي يواجه أي واحد منا هو قدرته على إنجاز الكثير من الأعمال في القليل من الوقــت المتاح، وليس إنجاز القليل من الأعمال في الكثير من الوقــت. ولكي نتمكن من مواجهة هذا التحدي يجب أن نعمل على تنظيم أوقاتنا بصورة دقيقة، وأن ندرك أن الوقــت أثمن ما فــي الوجود.
وانطلاقاً من هذه القاعدة الهامة فأنا حريص جداً على أوقاتي، وأتضايق عندما أشعر أن وقتاً قد ذهب مني من دون فائدة؛ أو أن أحداً قد ضيع وقتي فيما لا نفع فيه، وعادة لا أستقبل أحداً من دون موعد مسبق، أو في موعد الجلسة المحددة بالضبط، ويعرف الأصدقاء والأحبة حرصي على الوقت، وانتظامي في الحضور في الموعد المحدد حتى في صلاة الجماعة أذهب غالباً قبل الأذان، وأقيم الصلاة بعد الانتهاء من أذان الصلاة.
ولأن الناس في مجتمعنا، وخصوصاً قبل ثلاثين عاماً، لا يراعي بعضهم الدقة في المواعيد، والمجيء في أي وقت، ولذلك أتذكر أن البعض قد زعل مني لأنه جاء إليّ من دون موعد مسبق، ولم أستقبله!
ولكن مع الزمن تعود الناس وخصوصاً الأصدقاء على ذلك، وأخذوا يلتزمون بالوقت المحدد لحد ما، ولأن لكل قاعدة استثناء فقد نتجاوز حدود هذه القاعدة وخصوصاً لمن لا علم له بذلك، أو جاء من مسافة بعيدة.
ما أريد قوله إن على طالب العلم حتى يكون منجزاً ومتميزاً أن يتعامل بحرص على الوقت، وأن ينظم أوقاته، وألا يدع أحداً يسرق وقته الثمين، كما أن عليه أن يلتزم بالأوقات مع الآخرين أيضاً حتى يكون مثالاً يحتذى به.
وأتصور أن الإنسان إن لم ينجز شيئاً في فترة شبابه وقوته وصحته، فإنه -غالباً- لن ينجز أي شيء عندما يكون شيخاً، قد علاه الشيب والسقم والتعب!
ودائماً ما أتذكر قول أمير المؤمنين عليه السلام: «ما أسرَعَ السّاعاتِ فِي اليَومِ، وأسرَعَ الأيّامَ فِي الشَّهرِ، وأسرَعَ الشُّهورَ فِي السَّنَةِ، وأسرَعَ السّنينَ (السَّنَةَ) فِي العُمرِ!».
وقوله عليه السلام: «إنَّ اللَّيلَ والنَّهارَ يَعمَلانِ فيكَ فَاعمَل فيهِما، ويَأخُذانِ مِنكَ فخُذْ مِنهُما».
يسألني كثير من الأصدقاء والأحبة: لماذا لا تكون خطيباً حسينياً لتفيد وتستفيد؟!
والجواب: الخطابة الحسينية مهمة ومفيدة، ولها دور في إرشاد المجتمع، وتبليغ الدين؛ ولكن لا يقتصر الإرشاد والتبليغ على هذا الأمر، فهناك طرق عديدة كالخطابة الجماهيرية والكتابة وغيرها، وخصوصاً في هذا العصر الذي أصبح بالإمكان مخاطبة الناس وأنت في بيتك أو في مكان آخر.
ويبقى أن من عناصر النجاح سواء في الخطابة الحسينية أو في أي شيء آخر هو وجود الرغبة في ذلك، ولا أخفيك سراً إنني أول ما رجعتُ للبلاد توجهت للخطابة الحسينية نوعاً ما، وفعلاً قرأتُ لمدة لا تزيد عن السنة، ولكن لعدم وجود رغبة قوية، ووجود مشاكل في الحنجرة توقفت عن ذلك.
ولأن رغبتي منذ البداية هي التوجه نحو الكتابة، وبالفعل أنجزتُ في هذا المجال عدداً لا بأس به من المؤلفات وكان طموحي أن يكون العدد أكبر من ذلك، وإن كان البعض يراني مكثراً في الكتابة، وهذا من حسن ظنهم وألطافهم وفقهم الله تعالى.
كما أنني توجهت للخطابة الجماهيرية من خلال إلقاء المحاضرات في الاحتفالات الدينية والمناسبات الثقافية، وكذلك في القنوات التليفزيونية حيث أصبحت في هذا العصر من أكثر الوسائل انتشاراً، وبهذه المناسبة أشير إلى أن عدداً من الناس، وخصوصاً في العراق، يأتون ويسلمون عليّ، ويقولون لي: أنت (الشيخ عبدالله اليوسف) الذي يحاضر في التلفاز؟! لقد شاهدناك في القناة الفلانية، والبرنامج الفلاني، ويرحبون بي أشد الترحيب؛ ما أريد قوله هنا أن للتلفاز في هذا العصر فعله القوي في مخاطبة الناس أينما كانوا.
وفي ما تقدم درس مهم من واقع التجربة لكل طالب علم، ولغيرهم أيضاً، وهو أنه عليه إذا ما أراد النجاح والتميز أن يركز الاهتمام والجهد على ما يرغب فيه فعلاً، وخلاف ذلك لن يحقق ما يصبو إليه، وإذا حقق شيئاً لن يكون متميزاً فيه.
على صعيد العلاقات الاجتماعية أرى أهمية أن ينفتح طالب العلم على كل رموز المجتمع وأطيافه، سواء كانوا من العلماء أو الوجهاء أو الشخصيات البارزة، وأن يتواصل مع مختلف الشرائح الاجتماعية، وألا يكون متقوقعاً على نفسه، ومنطوياً على ذاته، أو يحبس نفسه ضمن دائرة جماعته فقط!
ومن هذه القاعدة انفتحت على كل أطياف المجتمع ورموزه، ولم أضع لنفسي حاجزاً بحيث يمنعني عن زيارة أحد، أو التواصل مع الآخرين، انطلاقا من أهمية الانفتاح على الكل، والاستماع إلى الجميع، والاستفادة منهم، وخصوصاً الرموز الاجتماعية والدينية البارزة، فلكل واحد منهم تجاربه في الحياة، وربما نصيحة من أحدهم، أو فكرة غائبة عن ذهنك تنفعك لمدة طويلة من الزمن.
وأتصور أن من المهم لكل طالب علم – كما غيره - السعي نحو تكوين علاقات اجتماعية واسعة، لأنها تفتح له آفاقاً واسعة، وأبواباً لولاها لكانت مؤصدة، وأما وضع الحواجز النفسية والإشارات الحمراء؛ فهذا نزوره، وهذا يجب ألا نزوره، وهذا نختلف معه فلا ينبغي أن ننفتح عليه، فهذا في ظني من أكبر الأخطاء التي يقع فيها بعض أهل العلم وطلبته، كما غيرهم؛ حيث لا ينفتحون إلا على من يكون على طريقتهم وتفكيرهم الخاص، وهم بهذا يخسرون الكثير من الفوائد التي تحصل من نسج العلاقات الاجتماعية الواسعة!
من المهم لطالب العلم أن ينفتح على جيل الشباب لأنه جيل المستقبل، وألا يضع بينه وبينهم حواجز وحواجب، وهذا يتطلب - بالإضافة إلى فهم لغة الشباب وتفكيرهم - أن يتعامل معهم برفق ورأفة ولين، لأنهم يرون في طالب العلم أنه يمثل الدين، وإذا ما انفتح عليهم اقتربوا إلى الدين أكثر، وأما إذا انغلق عنهم وأغلق أبوابه دونهم فإنهم ينفرون من الدين وأهله.
ومن تجربتي الخاصة فقد اكتسبت مجموعة من الأصدقاء من جيل الشباب، لا لشيء سوى التعامل معهم برفق ولين، وكما قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: «إِنَّ الرِّفْقَ لَمْ يُوضَعْ عَلى شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَ لَا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ» ، وعنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، قَالَ: «إِنَّ فِي الرِّفْقِ الزِّيَادَةَ وَالْبَرَكَةَ، وَمَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الْخَيْرَ».
والرفق بالشباب، والتعامل الحسن معهم من أسباب كسبهم نحو الدين، وغالباً الشباب لا يحبون التكلف والتصنع في العلاقة معهم، وإنما ينبغي التعامل معهم بانسيابية ودون تكلف مصطنع.
ولإدراكي بأهمية جيل الشباب كتبتُ مجموعة من المؤلفات تجاوزت العشرة كتب عن حياة الشباب وخصائصهم وتطلعاتهم وآلامهم وآمالهم، وقد لقيت إقبالاً جيداً من قبل شريحة الشباب، خصوصاً وأن المكتبة الإسلامية تفتقر إلى الكتابات الجادة – إلا ما ندر - عن الشباب من زاوية دينية.
من القواعد المهمة التي اتخذتها في مسيرتي الدينية والاجتماعية (قاعدة التغافل) عن الجاهلين والمسيئين حتى لا أنشغل بهم عن مشروعي الديني والثقافي، فكنت دائم التغافل ولا ألقي بالاً لهم، وأتجاهل المثبطين والسلبيين الذين يملؤون رأسك بالسلبيات والتثبيط وتحبيط العزائم والهمم!
وأتذكر أنه في إحدى المرات زرنا أحدهم – مع بعض الأصدقاء - وطرحنا عليه مشروعاً لخدمة المجتمع، وطلبنا منه دعم المشروع، فقال: أنصحكم أن لا تفعلوا شيئا!
ولكن عملنا بقاعدة التغافل، وتجاهلنا نصيحته التي هي بئس النصيحة!
فمن أراد أن ينجح عليه أن يتغافل، وكما ورد عن الإمام علي عليه السلام: «مَن لم يَتَغافَلْ ولا يَغُضَّ عن كثيرٍ مِن الامورِ تَنَغَّصَت عِيشَتُهُ»، وعنه عليه السلام: «تَغافَل يُحمَد أمرُكَ». وعنه عليه السلام: «إنّ العاقِلَ نِصفُهُ احتِمالٌ، ونِصفُهُ تَغافُلٌ».
وأما من يهتم بكل صغيرة وكبيرة، وبكل كلمة جارحة أو قادحة، وبكل موقف سلبي من هذا أو ذاك؛ فإنه يضيع عمره في تلك الصغائر والتوافه، ليجد نفسه بعد فترة طويلة من الزمن أنه لم ينجز شيئاً، ولم يعمل شيئاً يذكر!
ومن هنا ينبغي على طالب العلم، ومن واقع التجربة أن يتجاهل ويتغافل عن التوافه والسلبيات، وألا يُشغل نفسه بالردود وحب الانتقام تجاه من أخطأ بحقه أو أساء إليه، وأن يكون همه الإنجاز والعمل بإخلاص ونية صادقة، حتى يوفقه الله تعالى في مسيرته العلمية، وأن يستمر بجد واجتهاد في إنجاز أعماله دون توقف أو تعب، وألا يلتفت لمن همهم البحث عن السلبيات والتنقيب عن العيوب؛ فدعهم في بحر سلبياتهم يغرقون، وكن أنت في بحر العمل والإنجاز لتحوز على التميز والنجاح.
من واقع التجربة أن على طالب العلم أن يسرع الخطى في عمله، ويقوم بأداء دوره الديني والاجتماعي والثقافي من دون أن ينتظر شكراً من أحد، أو جزاءً من كبير أو صغير، وأن يكون عمله خالصاً لله تعالى، وما كان لله ينمو ولو كره الحاسدون.
وأما من يعتب على هذا لأنه لم يهتم به، ويزعل على ذاك لأنه لم يشكره، ويشعر بالهم والغم لأنه لم يلقَ ما يستحقه من اهتمام وتقدير واحترام؛ فهذا يضعف إرادة الإنسان ويقلل من اندفاعه نحو العمل الديني والاجتماعي والثقافي والعلمي.
وأتصور أن على طالب العلم أن يكون عصامياً لا عظامياً، وأن يعتمد على نفسه، ولا ينتظر الدعم - ولو المعنوي- من أحد؛ فإن حصل ذلك فبه وخير، وهو ما يجب أن يقوم به المجتمع تجاه طالب العلم بصورة طبيعية، وإن لم يحصل سار على نهيجه من أجل تحقيق أهدافه التي يسعى من أجل تحقيقها.
صحيح أن بعض الناجحين من أهل العلم وطلابه – كما غيرهم - يحققون النجاح لأنهم محظوظون، ويجدون من يدعمهم ويشجعهم، ولكن معظم الناجحين يصنعون النجاح بعصاميتهم؛ وذلك لثقتهم بأنفسهم وصبرهم وإرادتهم وتصميمهم ومثابرتهم حتى يبرزوا بفعل صفاتهم ومؤهلاتهم الذاتية.
وإلا فكم من العلماء من ماتوا بحسرتهم وهمّهم لعدم دعم المجتمع لهم، بل وخذلان بعض الناس لهم، ومع ذلك واصلوا الكتابة والعمل والإنجاز دون توقف أو ملل أو كسل أو تسويف؛ وبهذه المناسبة أشير إلى ما يذكر في ترجمة الشيخ النوري (صاحب مستدرك الوسائل) أنه قال في أواخر حياته الشريفة لتلميذه صاحب الذريعة آغا بزرك الطهراني (ت 1389هـ) ما نصه:
«إني أموت وفي قلبي حسرة، وهي إني ما رأيتُ أحداً آخر عمري يقول لي: يا فلان خذ هذا المال فاصرفه في قلمك وقرطاسك أو اشتر به كتاباً أو اعطه لكاتب يعنيك على عملك. ومع ذلك فلم يصبه ملل أو كسل، فقد كان باذلاً جهده ومواصلاً عمله حتى الساعة الأخيرة من عمره».
ويعلق التلميذ على حسرة أستاذه قائلاً: «كثيرون أولئك الذين يقضون وفي قلوبهم مثل هذه الحسرة من رجال هذا الفن؛ لكن ذلك لا يؤدي بهم إلى ترك العمل أو الفتور عنه ( وكم حسرات في نفوس كرام ) ».
ومثل هذه الحسرات محبوسة في قلوب عدد من أهل العلم الجادين والمتميزين إلى وقتنا المعاصر، ومع ذلك لم يمنعهم عدم المجتمع لهم من مواصلة الكتابة والتبليغ والإرشاد؛ وهكذا يجب على كل طالب علم أن يواصل عمله، وألا ينتظر من أحد شيئاً.
طالب العلم كلما نضج أكثر، وكان له حظاً من العلم، وكان همّه البحث عن الحقيقة ومعرفة الدليل على كل رأي وفكرة، كان أقرب إلى الحقيقة وأبعد عن التسليم المطلق لأفكار الآخرين وقناعاتهم.
وتساعد القراءة العلمية المنهجية والعميقة والمستمرة، والانفتاح على كل الآراء، على إعطاء طالب العلم القدرة بصورة أكبر على تشخيص الأفكار الصائبة من السقيمة، والقوية من الضعيفة، والمشهورة من الشاذة.
والطموح الذي يجب ألا يغيب عن بال طالب العلم أن يكون صاحب رأي مستقل، فالأفكار - في الغالب - لا تقليد فيها، وكل يؤخذ منه ويرد إلا المعصوم، فما نراه صحيحاً اليوم من أفكار وآراء قد نراه خطأ في الغد، فكثير من القناعات والأفكار والآراء تبدلت وتغيرت بمرور الزمن، ونضج العقل، والوصول إلى مرحلة الرشد العلمي أو ما يقاربها يساعد على ذلك.
وليس صحيحاً في نظري أن يكون العالم أو طالب العلم مجرد نسخة مكررة من آراء وأفكار غيره، فهذا يعني أنه لم ينمُ ولم يتطور علمياً وفكرياً، وهو باق على حاله كالجماد أو أشد حالاً!
ولذلك أتصور أن من المهم أن يكون (العالم) صاحب رأي وفكر، وهذا يتطلب بالطبع غزارة في العلم، ووفرة في المعرفة، وبحث لا ينقطع عن الوصول إلى الحقيقة؛ فالعلماء - كما يقال -أصحاب الدليل أينما مال نميل!
وتبقى للقصة زوايا أخرى، لم يحن وقت حكايتها!