من الأمور المهمة التي ينبغي الاهتمام بها معرفة الزمان (العصر) الذي يعيش فيه الإنسان، لما له من تأثيرات جوهرية في حاضره ومستقبله؛ فالوعي بالعصر والبصيرة فيه يفتح آفاقاً كبيرة في التنبؤ بمسار المستقبل، واستكشاف فرصه وآفاقه وإيجابياته، ومعرفة تحدياته وصعوباته وسلبياته.
وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وآله إلى البصيرة بالزمان الذي يعيش فيه الإنسان، ومعنى البصيرة الوعي بالزمان ومعرفة التعامل الصحيح معه، فقد روي عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: «عَلَى العاقِلِ أن يَكونَ بَصيراً بِزَمانِهِ»[1] ، وعنه صلى الله عليه وآله قال: «رَحِمَ اللَّهُ مَن حَفِظَ لِسانَهُ، وعَرَفَ زَمانَهُ، وَاستَقامَت طَريقَتُهُ»[2] )، فمعرفة الزمان وما فيه من تغيرات جوهرية ومنعطفات مهمة شرط لا غنى عنه للقدرة على التعامل مع المستجدات والمتغيرات التي تفرضها طبيعة الحياة المعاصرة وضغوطاتها، وطبيعة العصر ومتطلباته.
وحتى تستقيم حياة الإنسان ويستطيع التأقلم والتكيف مع تطورات العصر ومتغيراته عليه أن يكون عارفاً بزمانه، وواعياً بعصره، ومتابعاً لمتغيرات واقعه، وإلا خربت حياته، وتنكدت معيشته، ولذا روي عن الإمام عليّ عليه السلام أنه قال: «مَن لَم يَعرِف زَمانَهُ حُرِبَ[3] »[4] .
ومعرفة الزمان والوعي بالعصر يجعل المرء يتنبأ بأحداث المستقبل ومساره، ولا يفاجئ بمتغيراته، لذا روي عن الإمام عليّ عليه السلام أنه قال: «أعرَفُ الناسِ بالزّمانِ، مَن لَم يَتَعَجَّبْ مِن أحداثِهِ»[5] ، لأن من يعرف زمانه يتوقع أحداثه ومتغيراته.
وفرق بين العالم بزمانه الذي يكون مستعداً لمتغيراته، وصاحب رؤية مستقبلية، وأفق واسع؛ والعالم الذي يعشعش الماضي في ذهنه، فلا يتجاوز أفقه أرنبة أنفه، ولا يرى العصر إلا بفكر الماضين ورؤيتهم؛ فيتعجب من كل جديد، ويندهش من كل متغير، ويستوحش من كل تطور؛ وقد روي عن الإمام الصّادق عليه السلام أنه قال: «العالِمُ بِزَمانِهِ، لا تَهجُمُ علَيهِ اللَّوابِسُ»[6] ، لأنه صاحب معرفة بزمانه، وعالم بعصره، ومستعد لمتغيراته؛ فلا يفاجئ بأي جديد مهما كان نوعه.
ولا شك أن عصرنا الراهن يشهد قفزات متسارعة في مختلف أبعاد الحياة، وأن ما يشهده هذا الزمان من متغيرات عميقة ومستجدات علمية وتقنية وتكنولوجية وطبية وصناعية وغيرها من مجالات الحياة لم تشهدها البشرية في قرون متمادية بينما تتحقق في هذا الزمان بخطوات متسارعة، بحيث أصبح كل شيء يتغير بسرعة، وهو ما يفرض على الإنسان المعاصر أن يواكب هذا التطور والتغير بكل تحدياته وآفاقه المستقبلية، حتى لا يعيش على هامش العصر ويتجاوزه الزمان والمكان.
وأما من يعيش في هذا العصر وهذا الزمان بعقلية الماضي، ويكابر وكأنه يعيش ما قبل الثورة الصناعية والتقنية الحديثة فإن تفكيره يتجمد وحياته تعطب، وقد روي عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: « مَن كابَرَ الزَّمانَ عَطِبَ، ومن يَنقِمْ علَيهِ غَضِبَ»[7] ، وعنه عليه السلام قال: «مَن عانَدَ الزَّمانَ أرغَمَهُ، ومَنِ استَسلَمَ إلَيهِ لَم يَسلَمْ»[8] .
والعاقل الفطن عليه أن يفهم زمانه ويعرف متغيرات عصره، ولا مانع من أن ينظر للماضي نظرة تأمل وتفكير لأخذ العبرة والعظة، وليس كي يكون أسيراً لأحداثه ومآسيه، فلكل زمان أحداثه ومتغيراته، وفرصه وتحدياته، ثم إن حياتنا تتأثر عملياً بالحاضر والمستقبل ولا تتأثر بالماضي؛ وأما دراسة الماضي ومعرفته فإنما هي للعبرة كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ﴾[9] ، فالحياة تقوم على سنن ثابتة وأخرى متغيرة، وعلينا أن نستلهم من قصص الماضين العبرة والعظة كي نستفيد منها في حاضرنا ومستقبلنا.
المتابع للمتغيرات يستطيع أن يتخيل شكل الحياة وأنماطها في المستقبل، وماذا يمكن للتكنولوجيا المتقدمة أن تقدمه لإنسان المستقبل؟ وما ذا يمكن أن يتغير في أنماط حياتنا ونوعية تفكيرنا ورؤيتنا للحياة المعاصرة؟
تساؤلات كثيرة يثيرها العقل ومنطق العصر والخيال العلمي، فقد أصبحنا نسمع عن تنظيم رحلات مستقبلية للسياحة في الفضاء، والاستيطان في كواكب أخرى غير كوكب الأرض؛ وأما عن سيارة المستقبل فستكون قادرة على التحليق والطيران المنخفض لتفادي الازدحام وعن قدرتها على الغوص، وعن القدرة على تسييرها من دون الحاجة لقائد لها من خلال جهاز ذاتية القيادة (القيادة الالكترونية)، وعن انتشار السيارات الكهربائية من دون حاجتها للبنزين؛ وبالنسبة لبناء المنازل والفلل فسيمكن بناؤها في يوم واحد اعتماداً على تقنيات عديدة بدل الانشغال في بنائها لعدة سنوات مرهقة، وعن إمكانية التحكم بها من خلال التقنية الحديثة؛ وممارسة العمل من المنزل عبر شبكة الانترنت من دون الحاجة للذهاب لمقر العمل؛ وازدياد التسوق الالكتروني من دون الحاجة للذهاب إلى الأسواق، وهو ما سيقلص أماكن التسوق الكبيرة، وانتشار البيع والشراء الالكتروني؛ كما سيصبح بالإمكان السير على شوارع فيها ممرات متحركة تسير باتجاهٍ معين لتوصيل الأشخاص إلى وجهتهم المقصودة من دون الحاجة للذهاب بالسيارة أو الدراجة النارية؛ وفي المجال الطبي ستختفي بعض الأمراض المستعصية الآن وستصبح شيئاً من أخبار الماضي، وستحدث نقلة نوعية في مجال زراعة الأعضاء نتيجة التقدم في استخدام تقنية الخلايا الجذعية، وستتوفر إمكانية استبدال عضو في الجسم مكان عضو آخر بكل يسر وسهولة دون الحاجة لوجود متبرع بها، وسيحل الإنسان الآلي في إجراء بعض العمليات الطبية مكان الإنسان الطبيب، كما سيحل – كما بدأ الآن بالفعل- في القيام بكثير من المهمات التي كان لا يقوم بها إلا الإنسان نفسه.
والخيال العلمي في رؤية المستقبل لا يقف عند حد معين، خصوصاً مع التقدم المذهل في شتى مجالات الحياة وأبعادها المختلفة، ولا ريب أن متغيرات المستقبل لها إيجابياتها وسلبياتها، ولها فرصها وتحدياتها، وهو ما يستلزم الاستعداد النفسي والعقلي والتخطيط العملي للدخول إلى المستقبل بروح واثقة وقادرة على التأقلم مع متغيراته ومستجداته؛ وأما من يعيش اللحظة الراهنة فقط ولا يفكر في المستقبل ولا يخطط له فسيفاجئ بأن الزمن تجاوزه، ولم يعد قادراً على اللحاق بقطار المستقبل السريع.
مع متغيرات العصر وتطوراته يجب الحفاظ على القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية، لأن الإنسان له بعدان: الروحي والمادي، القيم مجالها الروح والسلوك، والتقنيات والصناعات مجالها الجسم والمادة، ولا يمكن أن يستغني المرء عن أحدهما، وهو ما يعني أهمية التكامل بين قيم الدين وواقع الحياة ومتغيراتها.
وعلى الإنسان المسلم أن يعمل بالحكمة الواردة عن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وآله: «اعمَلْ لِدُنياكَ كأنّكَ تَعيشُ أبداً، واعمَلْ لآخرتِكَ كأنّكَ تَموتُ غَداً»[10] ، فتصور أن الإنسان سيعمر في الدنيا يدفعه للعمل والتفكير بالمستقبل لنفسه وعياله، وتصور أنه يمكن أن يباغته الموت فجأة يجب أن يدفعه للتفكير بمستقبله في الآخرة، وهذه ميزة الإنسان المؤمن الذي يفكر في مستقبله الأخروي لأن الحياة الخالدة ستكون في الآخرة وليس في الدنيا.
وهنا يجب الانتباه إلى ضرورة التخطيط للمستقبل الأخروي، وألا ينخدع المرء بمغريات الدنيا وزينتها، فكما يخطط للتعامل مع مستقبله في الدنيا عليه أن يفكر بوعي وبصيرة في مستقبله بالآخرة، وميدان الاستعداد والعمل لها إنما يكون في الدنيا، فهي مزرعة الآخرة.
وللأسف فقد يندفع المرء مع تطور الحياة وتقدم التكنولوجيا فيها إلى الانبهار الشديد بالحضارة المادية الحديثة، فيلجأ إلى الإلحاد، أو الابتعاد عن الدين، أو إلقاء مسؤولية التخلف والتقهقر الحضاري على منظومة الدين وقيمه؛ وهي مغالطة لا تخفى على الإنسان اللبيب والعاقل الفطن.
والحقيقة إن لقيم الدين مجالها وحقلها، وللعلم مجاله وحقله، ولا يغني أحدهما عن الآخر، والمطلوب هو التكامل بين الدين الذي يدعو الإنسان إلى الالتزام بقيمه وأحكامه، وإلى العلم الذي يجب أن يخدم الإنسان ويطوع الحياة لصالحه.
ثم إن الإسلام يدعو إلى التقدم العلمي، ومواكبة العصر، ومعرفة الزمان معرفة دقيقة حتى يكون قادراً على تنزيل قيم الدين على واقع الحياة، وعلى وضع ضوابط للعلم حتى لا يكون العلم المادي مؤذياً للإنسان وضاراً به، وحتى لا يستخدم التطور العلمي للاستيلاء على الإنسان الضعيف والمجتمعات الإنسانية غير المتقدمة.
فالعلم المادي من دون ضوابط أخلاقية وإنسانية يدمر روح الإنسان وقيمه الأخلاقية، كما يحطم أخلاقيات المجتمعات الإنسانية وقيمها، كما قد يستخدم في إيذاء المجتمعات والإضرار بمصالحها ومستقبلها.
وتبقى الحاجة للقيم الدينية والأخلاقية والإنسانية من الأمور الثابتة التي لا غنى للإنسان في أي زمان ومكان عنها مهما تقدم علمياً وتقنياً، لأنه لا يمكن للإنسان أن يستغني عن روحه وضميره ووجدانه الحي.
[1] الخصال: 525/ 13، معاني الأخبار: 334/ 1، الأمالي للطوسي: 540/ 1163، مكارم الأخلاق: 2/ 383/ 2661 كلّها عن أبي ذرّ، بحار الأنوار: 71/ 279/ 19؛ صحيح ابن حبّان: 2/ 78/ 361 عن أبي ذرّ، كنز العمّال: 16/ 133/ 44157.
[2] الفردوس: 2/ 261/ 3215 عن ابن عبّاس، كنز العمّال: 3/ 552/ 7861.
[3] الحَرَب- بالتحريك-: نهْب مال الإنسان وتركه لا شيء له (النهاية: 1/ 358« حرب»).
[4] كنز العمّال: 16/ 181/ 44215 نقلًا عن وكيع والعسكري في المواعظ.
[5] غرر الحكم: 3252.
[6] تحف العقول: 356.
[7] تحف العقول: 85.
[8] غرر الحكم: 9054.
[9] سورة يوسف: الآية 111.
[10] تنبيه الخواطر: 2/ 234.