للمسجد مكانة عظيمة في الإسلام، ومنزلة متقدمة عند المسلمين، وقد أولاه الإسلام أهمية كبيرة، ولذا فأول عمل قام به رسول الله بعد قدومه إلى المدينة المنورة هو بناء المسجد النبوي لإقامة الصلاة جماعة فيه، واجتماع المسلمين وتلاقيهم، وكان مكاناً للتعليم والتربية والقضاء والإفتاء، وتدارس شؤون المسلمين، وتوعيتهم بأمور دينهم.
والمسجد هو بيت من بيوت الله كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ﴾[1] ، وهو مكان للصلاة والذكر والعبادة كما في قوله تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾[2] .
والمسجد هو المكان الذي يؤدي فيه المسلمون أهم أركان الإسلام وهو الصلاة، فيجتمعون فيه في كل يوم وليلة لأداء الصلوات الواجبة، ويقصده كل من أراد الاعتكاف والتقرب إلى الله تعالى بالدعاء والمناجاة والابتهال.
ولا يقتصر دور المسجد على الصلاة والعبادة وإن كان من أهم مقاصده؛ بل هو مكان أيضاً لتعاهد القرآن الكريم وتفسيره، وأخذ العلم الديني من حلقات أهل العلم والفقه، وتلقي المواعظ والخطب الحاثة على القيم والأخلاق الفاضلة؛ فالمسجد يعد منهلاً ومنبعاً للعلوم والمعارف الدينية والتربوية والأخلاقية.
والمساجد أحب بقاع الأرض إلى الله تعالى، وفي المقابل فإن الأسواق هي أبغض البقاع إليه؛ لما في الخبر أنه: سَأَلَ النَّبِيُّ جَبْرَئِيلَ: عَنْ أَحَبِّ الْبِقَاعِ إِلَى اللَّهِ وَأَبْغَضِهَا إِلَيْهِ؟
فَقَالَ: «أَحَبُّ الْبِقَاعِ إِلَى اللَّهِ الْمَسَاجِدُ، وَأَبْغَضُهَا إِلَيْهِ الْأَسْوَاقُ»[3] لأن المساجد تذكر الإنسان بالآخرة، وهي مجالس الأنبياء والأئمة والأولياء، وبيوت المتقين والمؤمنين، ومأوى الملائكة؛ وأما الأسواق فهي تذكر الإنسان بالدنيا، وتشده إليها، وهي مثوى الشياطين.
ولأهمية المسجد في الإسلام فقد أفرد الفقهاء له باباً لبيان أحكامه، وما يرتبط به من تشريعات في الفقه الإسلامي كي يكون المسلم على بصيرة من أمره في التعامل مع بيوت الله تعالى.
عندما نقرأ تراث الإمام المجتبى نكتشف اهتمامه الكبير بتعظيم مكانة المسجد وأهميته في الإسلام، وترسيخ ذلك في أذهان المسلمين، سواء من خلال أقواله أو أفعاله وسيرته، فكان يحث المسلمين على الذهاب إليه، وحضور صلاة الجماعة فيه، ونوجز الكلام عن ذلك في النقاط الآتية:
1- فوائد الاختلاف إلى المسجد:
ذكر الإمام عدة فوائد مهمة للذهاب إلى المسجد، فقد روى ابن شعبة الحرّانيّ: عن الإمام الحسن أنه قال: «مَنْ أَدَامَ الِاخْتِلَافَ إِلَى الْمَسْجِدِ أَصَابَ إِحْدَى ثَمَانٍ: آيَةً مُحْكَمَةً، وَأَخاً مُسْتَفَاداً، وَعِلْماً مُسْتَطْرَفاً، وَرَحْمَةً مُنْتَظَرَةً، وَكَلِمَةً تَدُلُّهُ عَلَى الْهُدَى، أَوْ تَرُدُّهُ عَنْ رَدًى، وَتَرْكَ الذُّنُوبِ حَيَاءً أَوْ خَشْيَةً»[4] . وفي هذا دلالة على الترغيب والحث الأكيد على ضرورة الاختلاف إلى المساجد والصلاة فيها، والتردد عليها.
وفي هذا الحديث بيان لفوائد الذهاب إلى المسجد، وحضور صلاة الجماعة فيه، ومن الفوائد التي أشار إليها الإمام الحسن : معرفة الأحكام الشرعية، اكتساب علم ومعرفة، الاستزادة من الأصدقاء والمعارف، التواصل مع الناس، نزول الرحمة، استماع موعظة أو حكمة أو كلمة مفيدة، وترك الذنوب والمعاصي وغيرها من الفوائد الجمة، فالمحروم حقاً من حرم نفسه من الصلاة في المساجد، وحضور صلاة الجماعة، وفاتته بركاتها وآثارها وفوائدها العظيمة.
ومن فوائد حضور المسجد نزول الخير والرزق والبركة على من يتردد عليه، وقد روي: «أن الإمام الحسن سمع رجلاً إلى جنبه في المسجد الحرام، يسأل الله أن يرزقه عشرة آلاف درهم، فانصرف إلى بيته، وبعث إليه بعشرة آلاف درهم»[5] وهذه من مصاديق الرحمة المنتظرة التي أشار إليها الإمام.
ولو أن هذا الشخص لم يأتِ إلى المسجد، ولم يدع الله فيه أن يرزقه، لما نال عشرة آلف درهم من كريم أهل البيت الإمام الحسن .
فالذهاب إلى المسجد لا يخلو من إحدى الفوائد، ولا يرجع المصلي منها إلا بإحدى الخصال النافعة، ويعضد ذلك ما روي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ: «لَا يَرْجِعُ صَاحِبُ الْمَسْجِدِ بِأَقَلَّ مِنْ إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: إِمَّا دُعَاءٍ يَدْعُو بِهِ يُدْخِلُهُ اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَإِمَّا دُعَاءٍ يَدْعُو بِهِ فَيَصْرِفُ اللَّهُ بِهِ عَنْهُ بَلَاءَ الدُّنْيَا، وَإِمَّا أَخٍ يَسْتَفِيدُهُ فِي اللَّهِ»[6] .
ومن المحزن حقاً أن نرى اليوم بعض المساجد كبيرة وضخمة ومتوفر فيها كل أسباب الراحة، ولكن أعداد المصلين فيها قليلة، وقسم من الناس يؤدون صلاتهم دائماً في البيوت أو المزارع أو أماكن أخرى إلا في المسجد فهم لا يترددون عليه ولا يصلون فيه، وهذه الحالة ناتجة عن الغفلة، أو التساهل في الذهاب إلى المسجد، أو وسوسة الشيطان، وقد ورد في الخبر عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ يَشْكُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْهَا: مَسْجِدٌ خَرَابٌ لَا يُصَلَّى فِيهِ»[7] .
إن ما تخسره بعدم الذهاب إلى المسجد وأداء صلاة الجماعة فيه عدة أمور؛ منها: خسران الثواب والأجر الذي لا يحصيه إلا الله تعالى، عدم معرفة بعض الأحكام الشرعية والمعارف الدينية التي تُلقى في المسجد، الانكفاء على الذات وحب العزلة والبعد عن الناس، عدم اكتساب صداقة من يحضرون الجماعة، لا أحد من روّاد المسجد يعرف عنك شيئاً، ويقال عنك في حياتك وبعد مماتك: إنك ممن لا يحضر صلاة الجماعة!
فعلى الإنسان المؤمن التعود على الذهاب إلى المسجد، والصلاة جماعة مع المؤمنين فيه، وخصوصاً جيران المسجد، لما روي عن النَّبِيّ : «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي مَسْجِدِهِ»[8] وهذا الحديث محمول على تأكيد استحباب إتيان الصلاة في المسجد.
وقد ورد في الروايات الحث على الذهاب والتردد على المساجد، وفيه أجر وثواب جزيل، لما روي عن رَسُولِ اللَّهِ أنه قَالَ: «مَنْ مَشَى إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ مَسَاجِدِ اللَّهِ، فَلَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ خَطَاهَا حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَنْزِلِهِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ»[9] . وعنه قَالَ: «الْمَسَاجِدُ بُيُوتُ الْمُتَّقِينَ، وَمَنْ كَانَتِ الْمَسَاجِدُ بَيْتَهُ ضَمِنَ اللَّهُ لَهُ بِالرَّوْحِ وَالرَّاحَةِ وَالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ»[10] .
وروي عن عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ: «مَنْ مَشَى إِلَى الْمَسْجِدِ لَمْ يَضَعْ رِجْلًا عَلَى رَطْبٍ وَ لَا يَابِسٍ إِلَّا سَبَّحَتْ لَهُ الْأَرْضُ إِلَى الْأَرَضِينَ السَّابِعَةِ»[11] .
2- ترك المسجد غفلة:
أوضح الإمام الحسن أن الغفلة هي: ترك الذهاب إلى المسجد، لما روي عنه: «الغَفلَةُ تَركُكَ المَسجِدَ، وطاعَتُكَ المُفسِدَ»[12] ؛ لأن عدم الذهاب إلى المسجد يجعل الإنسان في غفلة عن أمر دينه، ففي حين يتذكر الإنسان في المسجد الآخرة، ويتلقى المواعظ والتوجيه والإرشاد الديني، ويتأثر إيجابياً بروح الإيمان وأنفاس المؤمنين؛ يؤدي الابتعاد عن المسجد إلى قسوة القلب، والتشبث بالدنيا، والاقتراب شئياً فشيئاً من طاعة الشيطان حتى يكاد يغفل تماماً عن ذكر الله سبحانه، وينسى الموت، ولا يفكر في الآخرة.
3- إقامة حلقة علمية في المسجد:
المساجد مكان للعلم والتعلم، وهو مدرسة لنشر العلوم والمعارف الدينية، ومنذ أن بني أول مسجد في الإسلام وإلى الآن لا يزال المسلمون ينهلون العلم الديني من شيوخهم الذين يلتفون حول حلقاتهم العلمية ودروسهم الدينية.
وقد اتخذ الإمام الحسن المجتبى المسجد النبوي مكاناً للتعليم والتدريس، فقد كان له مجلس علمي معروف ومشهور، وكان يحضره أكابر الصحابة والتابعين والفقهاء والعلماء حتى ينهلوا من معارفه الواسعة، وعلومه الغزيرة والعميقة.
وقد كان الإمام () يجلس في مسجد رسول الله ، وله حلقة خاصة به، يعلم الناس أحكام الدين ومسائل الفقه، ومعالم الإسلام؛ حيث كان يجتمع حوله كبار الفقهاء والعلماء ليأخذوا من علومه، وينهلوا من معارفه، ويستزيدوا من حكمه ومواعظه البليغة والفصيحة.
وفي الفصول المهمة لابن الصاغ المالكي قال: «حكي عنه أنه كان يجلس في مسجد رسول الله ، ويجتمع الناس حوله، فيتكلّم بما يشفي غليل السائلين، ويقطع حجج المجادلين»[13] .
فقد كان مسجد رسول الله محلاً للعلم والدرس والتدريس، وقد اتخذه الإمام الحسن مكاناً لنشر العلم، وبسط المعرفة، وتعليم الناس علوم ومعارف الإسلام.
4- التزين عند الذهاب إلى المسجد:
كان الإمام الحسن إذا أراد الذهاب إلى المسجد من أجل إقامة الصلاة لبس أجود ثيابه وأحسنها، وتطيب بأحسن أنواع العطر والطيب.
جاء في نص الرواية: كانَ الحَسَنُ بنُ عَليٍّ ( عليهما السلام ) إذا قامَ إلَى الصَّلاةِ لَبِسَ أجوَدَ ثيابِهِ، فَقيلَ لَهُ: يَا بنَ رَسولِ اللهِ، لِمَ تَلبَسُ أجوَدَ ثيابِكَ؟
فَقالَ: «إنَّ اللهَ تَعالى جَميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، فَأَتَجَمَّلُ لِرَبّي وهُوَ يَقولُ: ﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾[14] فأُحِبُّ أن ألبَسَ أجوَدَ ثيابي»[15] .
والمستفاد من كلام الإمام هو استحباب التزين عند الذهاب إلى المسجد لأداء الصلاة، ولبس أجود الثياب وأفخمها، والتعطر بأجود أنواع الطيب؛ لأن المصلي يقف بين يدي الخالق عز وجل؛ فينبغي له التجمل والتزين باللباس والطيب والسواك والخاتم وغيرها من مصاديق التزين والتجمل.
وأما الذهاب إلى المسجد بثياب النوم، أو بثياب رديئة ووسخة، أو برائحة كريهة كالناتجة عن أكل الثوم والبصل، أو عدم الاستحمام والتنظف بعد الأعمال المسببة للعرق فهو أمر يتنافى مع تعاليم الإسلام وتوصياته عن التجمل والتزين أثناء الصلاة.
فقد ورد النهي عن دخول من أكل البصل والثوم ونحوها المسجد، لأن رائحتها تؤذي المصلين، لما روي عَنِ النَّبِيِّ أنه قَالَ: «مَنْ أَكَلَ هَذِهِ الْبَقْلَةَ الْمُنْتِنَةَ[16] فَلَا يَغْشَانَا فِي مَجَالِسِنَا، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَتَأَذَّى[17] بِمَا يَتَأَذَّى بِهِ الْمُسْلِمُ»[18] . وروي عنه : «أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَكْلِ الثُّومِ أَنْ يُؤْذَى بِرَائِحَتِهِ أَهْلُ الْمَسْجِدِ وَقَالَ: مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا»[19] .
إن على المصلي الاستعداد والتهيؤ عندما يريد الذهاب إلى المسجد لأداء الصلاة، فيلبس أفخم ثيابه، ويتعطر بأجود أنواع الطيب، وأن يكون بدنه ولباسه نظيفاً، لأنه سيقف بين يدي الملك الجبار.
وخلاصة الكلام: إن الإمام الحسن المجتبى كان يحث المسلمين على كثرة التردد على المساجد، والصلاة فيها، وحضور الجماعة، وكان يعتبر ترك الذهاب للمسجد من الغفلة التي يجب أن ينتبه المرء منها؛ كما أنه اتخذ من المسجد مكاناً للتعليم والتدريس ليبين للأمة أن دور المسجد لا يقتصر على العبادة، بل هو مكان أيضاً للعلم والتربية والموعظة والتوجيه والإرشاد.
[1] سورة الجن: الآية 18.
[2] سورة النور: الآية 36.
[3] مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ج3، ص: 362، ح 3786.
[4] تحف العقول: ابن شعبة الحراني، ص 167. بحار الأنوار: ج 75، ص 108، ح 14.
[5] المناقب: ابن شهر آشوب: ج 4، ص 21. بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج 43، ص342. تهذيب الكمال: المزي، ج 6، ص 234. الفصول المهمة: ج 2، ص 707.
[6] وسائل الشيعة، ج5، ص: 193، ح 6309.
[7] مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل: ج3، ص: 366، ح 3795.
[8] وسائل الشيعة: ج5، ص: 194، ح 6310.
[9] وسائل الشيعة، ج5، ص: 201، ح 6328.
[10] مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ج3، ص: 362، ح 3786.
[11] وسائل الشيعة، ج5، ص: 200، ح 6326.
[12] بحار الأنوار: 75/ 115/ 10.
[13] الفصول المهمة: ابن الصباغ المالكي، ج2، ص702.
[14] سورة الأعراف: الآية 31.
[15] وسائل الشيعة: الحر العاملي، ج 4، ص 455، ح 5704.
[16] في البحار والمصدر زيادة: الثوم والبصل.
[17] في البحار والمصدر: تتأذى.
[18] مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ج3، ص: 378، ح 3829.
[19] مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ج3، ص: 377، ح 3825.