معنى النسيء
حور - السعودية _ القطيف - 02/10/2005م
قال تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } سورة التوبة: الآية37. ..فما تفسير هذه الآية ؟
الإجابة:
تشير هذه الآية الكريمة والآية التي قبلها إلى أن تحريم القتال في الأشهر الأربعة ( ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب ) كان أحد الطرق لإيقاف الحروب الطويلة الأمد ووسيلة للدعوة نحو الصلح والدعة ، لأن المحاربين إذا وضعوا أسلحتهم في هذه الأشهر الأربعة ، وأخمدت نيران الحرب ووجدت الفرصة للتفكير ، فمن غير المستبعد أن تنتهي الحرب ويحل السلام محله ، لأن الشروع المجدد بعد إيقاف القتال وانطفاء نار الحرب في غاية الصعوبة ، ولا ننسى أن المقاتلين في حرب فيتنام خلال العشرين سنة من الحرب كانوا يواجهون صعوبة كبيرة لإيقاف القتال خلال أربع وعشرين ساعة لبداية العام الميلادي الجديد ، إلا أن الإسلام جعل لأتباعه قراراً بإيقاف القتال خلال أربعة أشهر ، وهذا الأمر بنفسه يدل على روح السلام في الإسلام والمطالبة بالصلح . إلا أن العدو إذا أراد أن يستغل هذا القانون الإسلامي ، وأن ينتهك حرمة هذه الأشهر فعلى المسلمين أن يواجهوه بالمثل .
والنسيء " على وزن " الكثير " من مادة " نسأ " ومعناها التأخير ويمكن أن تكون هذه الكلمة اسم مصدر أو مصدراً ، وتطلق على ما يؤجل من إعطاء المال أو قبضه .
وكان عرب الجاهلية يؤخرون بعض الأشهر الحرم ، فمثلا كانوا ينتخبون شهر " صفر " بدل شهر محرم في عام فيحرمونه ، كما حدث لأحد زعماء قبيلة بني كنانة ، إذ خطب في اجتماع كبير نسبياً في موسم الحج بمنى وقال : إنني أخرت المحرم هذا العام وانتخبت شهر صفر مكانه .
وقد روي عن ابن عباس : إن أول من سن هذه السنة هو عمرو بن لحي ، وقال بعضهم : بل هو قلمس " من بني كنانة " .
وفلسفة هذا العمل " التأخير والنسيء " في عقيدتهم أن توالي ثلاثة أشهر حرم تباعاً كذي القعدة وذي الحجة والمحرم يسبب إضعاف معنويات المحاربين ، لأن عرب الجاهلية كانوا يتوقون إلى الإغارة وسفك الدماء والحرب ، وأساساً فإن الحرب والإغارة وما شاكلهما كان يمثل جزءاً من حياتهم ، وكان من الصعب عليهم أن يتحملوا ثلاثة أشهر حرم ( يتوقف فيها القتال ) لذا فقد كانوا يسعون لفصل شهر المحرم عن هذه الأشهر ( أو يؤخروه ) !
كما يرد هذا الاحتمال أيضاً ، وهو أن ذا الحجة قد يقع في الصيف أحياناً ، مما يسبب عليهم ، حرجاً في موضوع الحج ، ونعرف أن الحج لم يكن مسألة عبادية عند العرب فحسب ، بل كان موسماً كبيراً منذ زمن إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) يجتمع فيه خلق كبير ، وتقام فيه الأسواق التجارية والاقتصادية والمحافل الشعرية والخطابية ، ويفيدون منها فوائد عامة ، لذلك كانوا يبدلون شهر ذي الحجة حسب ميولهم ويجعلون مكانه شهراً آخر طيب الأجواء لطيف الهواء . وربما كانت كلا الغايتين صحيحتين .
وعلى كل حال ، كان هذا العمل باعثاً على إشعال نار الحرب أكثر فأكثر ، وأن تسحق الغاية من الأشهر الحرم ، وأن يتلاعب بمواسم الحج حسب الأهواء ابتغاء المنافع المادية . وقد عد القرآن هذا العمل زيادة في الكفر ، لأنهم إضافة إلى شركهم وكفرهم الاعتقادي فإنهم بسحقهم هذا الدستور كانوا يرتكبون كفرا عملياً ، ولا سيما أنهم كانوا يرتكبون مخالفتين في آن واحد إذ كانوا يحرمون ما أحل الله ويحلون ما حرم الله .
والقرآن يعلمنا أن نقف صفاً واحداً بوجه العدو عند الحرب ، ويستفاد من هذا النص القرآني أنه ينبغي التنسيق حتى في المواجهات السياسية والثقافية ، والاقتصادية والعسكرية فنحن نكتسب القوة في ظل هذه الوحدة التي تنتهل من روح الإسلام وهذا الأمر قد جعل في طي النسيان وكان مدعاة إلى انحطاط المسلمين وتأخرهم .
وقوله تعالى: ﴿ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ والسؤال هو:كيف يزين للناس سوء أعمالهم ؟ !
إن فطرة الإنسان إذا كانت نقية تميز الصالح من الطالح بصورة جيدة ، إلا أنه حين يذنب الإنسان ويخطو في طريق الآثام فإنه يفقد هذا الإحساس " بتمييز الصالح من الطالح " تدريجاً . ومتى ما واصل الإقدام على السيئات ، تبدو له سيئاته وكأنها أمر حسن وتتزين له ، وهذا ما أشارت إليه آيات القرآن - في هذا المورد - وفي موارد أخرى . وقد ينسب تزيين الأعمال السيئة للشيطان ، كما في الآية الشريفة ﴿فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) وقد يسند الفعل إلى ما لم يسم فاعله ويبنى للمجهول كما في الآي محل بحثنا ، وقد يكون الفاعل وسوسة الشيطان أو النفس الأمارة بالسوء . وقد ينسب إلى الشركاء أي الأصنام ، كما في الآية الشريفة ﴿وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (2) ، وقد ينسب تزيين الأعمال السيئة إلى الله ، كما في الآية ( 4 ) من سورة النمل﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (3). ونسبة مثل هذه الأمور إلى الله مع أنها تخص عمل الإنسان نفسه لأن خواص الأشياء بيد الله ، فهو مسبب الأسباب . ومثل هذه النسبة لا تنافي مسألة الاختيار وحرية إرادة الإنسان (4) .
وخلاصة تفسير هذه الآية الشريفة: إن المشركين كانوا يؤخرون حرمة شهر كشهر محرم ويبدلونه بشهر لاحرمة له كشهر صفر، إذا كان ذلك يصب في مصلحتهم للقتال في أي شهر غير مبالين إن كان القتال في أشهر حرم لايجوز فيها القتال، كل مايقومون به هو تبديل شهر بشهر ، وهذا التحليل والتحريم للأشهر بخلاف مايريده الله عز وجل ، و هو زيادة في الكفر علاوة على كفرهم.
ــــــــــــــ
الهوامش:
1 - سورة النحل: الآية 63.
2 - سورة الأنعام، الآية 137.
3 - سورة النمل: الآية4.
4 - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، مؤسسة البعثة، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى 1413هـ، 1992م، ج6، ص45-48، (بتصرف قليل) .
سماحة الشيخ عبد الله اليوسف