غلاف كتاب: الإمام الحسين (ع) ونهج التسامح، ط. 1، 1440هـ - 2018م
|
إننا أحوج ما نكون اليوم إلى لغة التسامح والتواضع الإنساني الذي تحول إلى عملة نادرة أمام ما نراه في واقع حياتنا اليومية نحن المسلمين. فقد تناسينا رموزنا الإنسانية وفلسفتهم في التسامح والتواضع والتي أدت إلى مساهماتهم في صنع الحضارة الإنسانية العظيمة، وتمسكنا بكل ما هو سطحي خالٍ من كل مضمون، ومتعالية مريضة مصابة بالأنانية والحقد والتكفير والتخوين حتى فقدنا بعدنا الإنساني الذي كنا نباهي فيه الأمم.
إن ما نلاحظه الآن، وجود شبه قطيعة بين المطروح من على منابر الوعظ وخطب الجمعة، وفي مناسباتنا ومراسيمنا، وبين السلوك الجمعي الذي يسعى من أجل سلطة أو ثروة أو هيمنة من خلال الإلغاء والاتهامات المتبادلة، وهذا ما أحدث فجوة ما بين الخطاب والنظرية، وبين الواقع، وأدى إلى تهميش كل ما هو إنساني وإبداعي، رغم وجود كم هائل من التنظير والخطابات والأفكار، وهذا يعكس مدى الفجوة الكبيرة بين الخطاب على مستوى التنظير، والواقع على مستوى السلوك، رغم ما نردده ونستحضره عن منهج الأئمة المعصومين، عليهم السلام، من أقوال وأحاديث وسيرة مضيئة، الإمام الحسين عليه السلام، خير دليل وقدوة لنا في ذلك، فقد كان الإمام يمثل رمزاً للإنسانية قبل أن يكون رمزاً للدين.
ومن شذرات السيرة العطرة للإمام الحسين عليه السلام، ما عُرف بتعامله مع جيش يزيد بن معاوية، وكيف أنه قابلهم بتعامل إنساني رفيع، حينما أدركه بقيادة الحر بن يزيد الرياحي للقبض عليه ورأى ما حلّ بهم من ألم العطش الشديد، أمر الإمام الحسين عليه السلام بإسقائهم الماء.
لقد ابتعدنا عن هذا الفكر الإنساني والينبوع الذي لا ينضب من الحكمة والتسامح، فما أحوجنا اليوم إليه كي نعيد زرع بذور التسامح والتواضع. لقد فقدنا الكثير من المشاعر الإنسانية الجميلة حتى صارت مجتمعاتنا تعيش على صراعات وعصبيات في ظل شعور واضح بلا مبالاة في كل شيء.
وهناك سؤال يطرح نفسه علينا نحن المسلمين: كيف نؤسس أو نبدع معنى انسانياً داخل وعينا الجمعي قولاً وعملاً نستطيع من خلاله إيجاد هويتنا الحضارية على مستوى الداخل والخارج؟، فهناك نقص واضح في إعادة تجديد ونتاج المعاني الإنسانية رغم كثرة المنابر والدعوة للتسامح والأخوة، لكن لم نستطع أن نبدع سلوكاً إنسانياً متسامحاً ومُحباً للحياة، كما علمنا آل البيت عليهم السلام. فلا زلنا ضحايا ثقافة لا تعرف إلا الموت.
من هنا جاء أستاذنا الدكتور الشيخ عبد الله اليوسف ليثري المكتبة الإسلامية بكتابه القيم «الإمام الحسين ونهج التسامح» ليتناول التسامح في نهج الإمام الحسين و سيرته المباركة حيث يرى سماحته أن «الحديث عن التسامح و وجوب ترسيخه في المجتمع الإسلامي من الأمور المهمة للغاية لبناء السلام و التعايش بين مختلف المكونات المجتمعية».
وتعتبر دراسته هذه الأولى من نوعها في بابها، حيث سلّط فيها الأضواء على نهج ومنهاج التسامح الأخلاقي و الإنساني في شخصية وسيرة الإمام الحسين عليه السلام.
وإذا كان كتابنا هذا بحاجة لتعريف، إلا أنَّ مؤلفه سماحة الشيخ عبد الله اليوسف غني عن التعريف، فهو المربي الفاضل والخطيب البارع مفكر إسلامي، وباحث في شؤون الفكر الإسلامي المعاصر. حاصل على وكالات شرعية وإجازات في الرواية من عدد من كبار المراجع والفقهاء المعاصرين. حاصل على شهادة الدكتوراه في الفقه والمعارف الإسلامية من جامعة المصطفى العالمية عام 1432هـ- 2011م.
يتناول الكتاب مفهوم التسامح لغة واصطلاحاً وبيان ما ورد عن التسامح في القرآن الكريم والسنة الشريفة، يتبعه الحديث عن جذور وقواعد وأصول التسامح في الإسلام، يبتغي الكاتب من ورائها تأصيل قيمة التسامح من المنظور الإسلامي. ثم يأتي الدور العملي ليتناول الأخلاق الحسينية فيتحدث عن تواضعه وجلمه وصبره وعفوه وصفحه ورحمته ورفقه ليؤسس لنا منهج للتسامح مع العدو قبل الصديق.
وكعادته حرص سماحته (دام توفيقه) على الجانب التطبيقي في حياة أبناء المجتمع المسلم فتحدث أخيراً عن الحاجة إلى التسامح في حياتنا انطلاقاً من مبدأ التأسي والاقتداء بالإمام الحسين عليه السلام ونهجه وفكره وسيرته المباركة. فإخلاصنا للحسين عليه السلام هو الإخلاص للقيمة التي عاشها ومثلها في كل حياته، فهو لا يريد منا عاطفة ومحبة، وإن كان يستحق منا كل العاطفة والمحبة، لكنه يريد الى جانب ذلك، سلوكاً و عملاً و مواقف.. يقول أمير المؤمنين عليه السلام: « ألا وإنَّ إمامَكُم قَدِ اكتَفى مِن دُنياهُ بِطِمرَيهِ ، ومِن طُعمِهِ بقُرصَيهِ، ألا وإنَّكُم لا تَقدِرونَ عَلى ذلِكَ ولكِن أعينوني بِوَرَعٍ وَاجتِهادٍ، وعِفَّةٍ وسَدادٍ».
يتألف الكتاب من 216 صفحة من الورق الفاخر، صدر عن مركز العميد الدولي للبحوث والدراسات التابع للعتبة العباسية المقدسة، عام 1440 هجرية – 2018 ميلادية، يبدأ بمقدمة وما جذبني فيها حرص المؤلف على بيان ضرورة الحديث عن التسامح و وجوب ترسيخه في المجتمع الإسلامي بغية بناء السلام والتعايش، خصوصاً مع انتشار ظاهرة التكفير والتناحر والاقصاء والتهميش المنتشرة هذه الايام بين أبناء المجتمع سواء كان ذلك في الحياة الاعتيادية أو الحياة الافتراضية في مواقع التواصل الاجتماعي.
ثم يأتي محتوى الكتاب ليتضمن خمسة فصول كالآتي:
الفصل الأول: مفهوم التسامح.
الفصل الثاني: قواعد التسامح في الإسلام.
الفصل الثالث: الإمام الحسين وأخلاقيات التسامح.
الفصل الرابع: الإمام الحسين وأقسام التسامح.
الفصل الخامس: الحاجة الى التسامح.
تناول الفصل الأول مفهوم التسامح، فتناول المؤلف فيه مفهوم التسامح لغة واصطلاحاً، ويوضح سماحته أن المقصود بالتسامح هو حق الآخر بالاختلاف والتعايش معه، دون قطيعة أو جفاء أو صدام أو عداوة، ولا يعني التنازل عن المعتقدات أو القناعات الفكرية أو المساومة حولها، وإنما يعني التعايش والتعامل بإنسانية وعدالة وإنصاف بغض النظر عن صحة أفكاره وخطئها. ثم يتحدث سماحته عن التسامح في القرآن الكريم فيتناول الآيات الشريفة التي تحدثت عن اللين والصفح واحترام الحقوق، ثم يأتي للسنة النبوية المشرفة فيغترف من لؤلؤها في التسامح سانداً الحديث بتطبيق عملي فيأخذ الشواهد النبوية ليبرزها تباعاً.
فيما تناول الفصل الثاني قواعد التسامح في الإسلام فيشرع بقاعدة مهمة أطلقها الشرع المقدس وهي قاعدة ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين﴾ تلك القاعدة القرآنية التي جعلت الدخول في الدين يكون عن قناعة واختيار، فلا يكره أحد على دين. فيما جاءت القاعدة الثانية «قاعدة الإلزام وقبول الآخر». وقاعدة «أخلاقيات الإسلام وقيم التسامح» من أهم القواعد التي تؤصل للتسامح في الإسلام هي القواعد الأخلاقية، فقد عدّ الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله الأخلاق الحسنة هدفاً من بعثته حيث قال: «إنّما بُعِثْتُ لأتَمِّمَ مَكارِمَ الأخْلاقِ».
في الفصل الثالث جاءت أخلاقيات التسامح عند الإمام الحسين عليه السلام لنرى فيضاً من غيض من تواضعه وحلمه وصبره، فعفوه وصفحه، ثم كرمه وجوده ورفقه ورحمته، فإحسانه إلى الناس. فنجد الحسين الشهيد عليه السلام مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ الذي مرّ بمساكين وهم يأكلون كسراً لهم على كساء، فسلّم عليهم فدعوه إلى طعامهم، فجلس معهم، وقال: «لولا أنه صدقة لأكلت معكم». ثم قال: «قوموا إلى منزلي، فأطعمهم، وكساهم» ليعطينا الحسين عليه السلام الدرس تلو الدرس في ترسيخ التسامح الاجتماعي.
ويختم شيخنا الأستاذ هذا الفصل ببيان تكليفنا تجاه السيرة الحسينية المباركة فيقول «إن علينا كمسلمين الاقتداء بهذا الإمام العظيم، وسيد الشهداء، في كل الأبعاد والجوانب، ومنها أخلاقه وصفاته وأفعاله وقيمه وآدابه وسجاياه النبيلة والجميلة والرائعة. وليكن التسامح شعارنا ومنهجنا في الحياة، حتى ننهض بمجتمعنا، ونرتقي بفكرنا، ونعتز بأخلاقنا، ونتقدم بسلوكنا، ونتحضر بقيمنا».
مفتتح تمهيدي عن «أقسام التسامح» كانت افتتاحية الفصل الرابع الذي بيّن لنا تلك الأقسام بالآتي:
1- التسامح الديني.
2- التسامح الأخلاقي.
3- التسامح الإنساني.
4- التسامح الاجتماعي.
5- التسامح الفكري.
6- التسامح السياسي.
في التسامح الديني يبين سماحته مستويين اثنين: الأول «مستوى نظري » والثاني «مستوى عملي»، يتبعه التسامح الأخلاقي، فالتسامح الإنساني فيتحدث عن إنسانية الإمام الحسين عليه السلام مستعرضاً أبرز المواقف الإنسانية التي سطرها الإمام الحسين عليه السلام مع العدو قبل الصديق والمبغض قبل المحب. ثم يستعرض سماحته تلك المواقف الاجتماعية في السيرة الحسينية، يتبعها التسامح الفكري الذي تجسد مجموعة مواقف، أبرزها:
أ- نقد الفكرة ومدح القائل.
ب- تصحيح الأفكار الخاطئة.
ت- الاستماع للرأي الآخر برحابة صدر.
ويختم سماحته ذلك الكتاب القيم بفصل أخير – الخامس- كان مسك الختام، اذ تحدث فيه سماحته عن ضرورة الاقتداء بسيرة الإمام الحسين عليه السلام، فيرى سماحته أن الحل الأمثل لتجاوز المحن التي يمر بها مجتمعنا المسلم يتجسد بممارسة الحوار الموضوعي وتقدير وجهات نظر الآخرين، وإعطاء آرائهم الاجتماعية حقها من الاعتبار والتقدير، وهذا هو الطريق الأقصر للوصول إلى التعايش الحقيقي.
ثم يعرج على الاختلاف المذهبي والتعايش السلمي، متحدثاً عن التنوع الديني والتسامح الإسلامي في زمن الدولة الإسلامية المباركة، مبيناً إن المجتمعات الإسلامية اليوم بحاجة ماسة إلى إرساء قيم التسامح والتعايش الايجابي بين أتباع الديانات المختلفة فضلاً عن أتباع المذاهب الإسلامية.
يختم سماحته هذه الدراسة بمجموعة من التوصيات أجدها مهمة جداً في حياتنا اليومية أهمها: « وضع مادة دراسية في مناهج التربية والتعليم لتدريس ثقافة التسامح والاختلاف »، و«الاهتمام بالدراسات المقارنة في الفقه بين المذاهب، والقواسم المشتركة بين الأديان لتعزيز روح التسامح في المجتمع». و«العمل على كتابة موسوعة علمية متكاملة عن أخلاقيات أخلاقيات الإمام الحسين عليه السلام بحيث يتناول كل ما ورد عن سيرته الأخلاقية والروحية والمعنوية » ، و« حفظ كل ما كتب أو دون عن سيرته الأخلاقية الشريفة لتكون مرجعاً توثيقياً للكتّاب والباحثين ».
إن سماحته وكعادته يضع بين أيدينا خارطة طريق وصفة علاجية ناجعة لمواجهة اختلافاتنا بالتسامح وقبول الآخر، ويعتبر هذا الكتاب بحق - زاد عاشوراء - لكل الخطباء والمبلغين ليغترفوا من الأخلاق الحسينية وينشروها بين أبناء مجتمعاتنا بمنابرهم ومجالسهم.
أسأل الله العلي العظيم أن يمن على سماحته بالصحة والعافية وأن يديم توفيقه ويجعله في ركب محمد و آله الطاهرين.