نشرت مجلة الساحل في عددها الثاني ربيع 2007م دراسة لسماحة الشيخ عبدالله أحمد اليوسف بعنوان ( خطاب الاعتدال عند العلامة الشيخ ميثم البحراني ) ..وهذا نصها بالكامل:
مدخل
يمثل خطاب الاعتدال واحترام الرأي الآخر شعار المصلحين والقادة الكبار الذين يحملون راية الحفاظ على مصالح الأمة الإسلامية بمختلف مذاهبهم وطوائفهم ومدارسهم الفقهية والكلامية وإن أدى ذلك إلى تضييع بعض أو كل حقوقهم الخاصة، بينما يرمز خطاب التشنيع والهجوم على الخصوم بقسوة إلى الذين لا يهمهم سوى مصالحهم الذاتية، وإن أدى ذلك للفتنة والاحتراب بين المسلمين.
وعندما نقرأ فيما كتبه الشيخ ميثم البحراني من كتب قيمة سنرى أنه اتبع منهجاً تقريبياً بين المسلمين، واستخدم أسلوباً معتدلاً ومنصفاً تجاه المذاهب الإسلامية الأخرى بعيداً عن الشحن المذهبي، أو التعبئة التحريضية تجاه الآخر.
فاختلافه مع الآخر لا يُلغي احترامه، كما لا يعني قبول رأيه، وإنما تبيان وجهة نظر الطرف الآخر في المسائل الخلافية بكل إنصاف وتجرد، ثم بيان ما يذهب إليه من رأي مرتكزاً على الدليل والبرهان العلمي.
فهذا العالم الرباني الشيخ ميثم البحراني (قدس سره) ( 636 ـ 699هـ/ 1239ـ 1300م ) قد تميز بخطاب معتدل، مع الالتزام باتباع الحق بدون مجاملة لأحد؛ فقد قال في مقدمة شرحه للنهج ما نصه: (عاهدتُ الله سبحانه أني لا أنصر فيه مذهباً غير الحق، ولا أرتكب هوى لمراعاة أحد من الخلق؛ فإن وافق الرأي الأعلى فذلك هو المقصد الأقصى، وإلا فالعذر ملتمس مسؤول، والعفو مرجو مأمول ) (1) .
وقد امتاز الشيخ ميثم في شرحه لنهج البلاغة ـ وفي غيره من كتبه الأخرى ـ بالعمق العلمي، والمناقشة الهادئة في مسائل الخلاف، بعيداً كل البعد عن روح التعصب أو التجريح أو الإساءة لمن يخالفه الرأي، بل كان يحترم المخالف، ويستخدم ألفاظاً في غاية الأدب والإنصاف، فعندما يذكر ابن أبي الحديد ـ مثلاً ـ يترحم عليه (2)، وعندما يذكر اسم الرازي يصفه بـ (الإمام ) ويترحم عليه(3) . مما يدل على احترام الشيخ ميثم للآخر وإن كان يختلف معه في بعض المسائل العقدية فضلاً عن غيرها.
نماذج من خطاب الاعتدال
يُعد الشيخ ميثم البحراني من المصلحين البارزين في مجال التقريب بين أتباع المذاهب الإسلامية، ونبذ روح التعصب والتطرف والإقصاء؛ وبالرغم من وقوع فتن مذهبية في عصره؛ إلا أنه لم ينساق مع الأحداث والفتن المذهبية، بل حافظ على اتباع البحث العلمي الرصين، ومناقشة مسائل الخلاف بالارتكاز على الدليل والحجة بعيداً عن التعبئة التحريضية ضد الرأي المخالف.
وأسلوب الشيخ ميثم المعتدل في المضمون والطرح نراه في العديد من شروحه لخطب نهج البلاغة، ولنأخذ بعض النماذج على ذلك:
1ـ شرحه للخطبة الشقشقية:
تعد مسألة الخلافة جوهر الخلاف بين المسلمين، ومنها تفرعت بقية المسائل الخلافية، وهذه الخطبة المنسوبة للإمام علي (عليه السلام) يوضح فيها أحقيته بالخلافة دون غيره، وعندما يتناولها الشيخ ميثم بالشرح يأتي برأي الطرف الآخر بكل إنصاف مع رفضه له، كما يرفض إدعاء بعض الشيعة بتواتر هذه الخطبة لفظاً وإن كانت متواترة بالمعنى.
ولنقرأ ما قاله الشيخ ميثم بالنص: ( اعلم أن هذه الخطبة وما في معناها مما يشتمل على شكايته (عليه السلام) وتظلمه في أمر الإمامة هو محل الخلاف بين الشيعة وجماعة من مخالفيهم؛ فإن جماعة من الشيعة ادعوا أن هذا الخطبة وما في حكمها مما اشتمل عليه هذا الكتاب منقول على سبيل التواتر، و جماعة من السنة بالغوا في إنكار ذلك حتى قالوا: إنه لم يصدر عن علي (عليه السلام) شكاية في هذا الأمر ولا تظلم أصلاً، ومنهم من أنكر هذه الخطبة خاصة ونسبها إلى السيد الرضي.
والتصدر للحكم في هذا الموضع هو محل التهمة للشارحين، وأنا مجدد لعهد الله على أني لا أحكم في هذا الكلام إلا بما أجزم به أو يغلب على ظني أنه من كلامه أو هو مقصوده (عليه السلام)، فأقول: إن كل واحد من الفريقين المذكورين خارج عن العدل، أما المدعون لتواتر هذه الألفاظ من الشيعة فإنهم في طرف الإفراط، وأما المنكرون لوقوعها أصلاً فهم في طرف التفريط، أما ضعف كلام الأولين فلأن المعتبرين من الشيعة لم يدعوا ذلك ولو كان كل واحد من هذه الألفاظ منقولاً بالتواتر لما اختص به بعض الشيعة دون بعض، و أما المنكرون لوقوع هذا الكلام منه (عليه السلام) فيحتمل إنكارهم وجهين: أحدهما أن يقصدوا بذلك توطية العوام، وتسكين خواطرهم عن إثارة الفتن و التعصبات الفاسدة ليستقيم أمر الدين ويكون الكل على نهج واحد فيظهروا لهم أنه لم يكن بين الصحابة الذين هم أشراف المسلمين وساداتهم خلاف ولا نزاع ليقتدي بحالهم من سمع ذلك، وهذا مقصد حسن ونظر لطيف لو قصد، والثاني أن ينكروا ذلك عن اعتقاد أنه لم يكن هناك خلاف من الصحابة ولا منافسة في أمر الخلافة والإنكار على هذا الوجه ظاهر البطلان لا يعتقده إلا جاهل بسماع الأخبار لم يعاشر أحداً من العلماء، فإن أمر السقيفة وما جرى بين الصحابة من الاختلاف وتخلف علي (عليه السلام) عن البيعة أمر ظاهر لا يدفع ومكشوف لا يتقنع حتى قال أكثر الشيعة إنه لم يبايع أصلاُ، ومنهم من قال إنه بايع بعد ستة أشهر كرهاً، وقال مخالفيهم إنه بايع بعد أن تخلف في بيته مدة ودافع طويلاً، وكل ذلك مما يقضي الضرورة معه بوقوع الخلاف والمنافسة بينهم.
والحق أن المنافسة كانت ثابتة بين علي (عليه السلام) وبين من تولى أمر الخلافة في زمانه، والشكاية والتظلم الصادر عنه في ذلك أمر معلوم بالتواتر المعنوي، فإنا نعلم بالضرورة أن الألفاظ المنقولة عنه المتضمنة للتظلم والشكاية في أمر الخلافة قد بلغت في الكثرة والشهرة بحيث لا يكون بأسرها كذباً بل لابد وأن يصدق واحد منها، و أيها صدق ثبتت فيه الشكاية. أما خصوصيات الشكايات بألفاظها المعينة فغير متواترة وإن كان بعضها أشهر من بعض، فهذا ما عندي في هذا الباب بعد التحري والاجتهاد، وعلى هذا التقرير لا يبقى لإنكار كون هذه الخطبة صادرة عنه (عليه السلام) ونسبتها إلى الرضي معنى ) (4) .
وبالتمعن فيما شرحه الشيخ ميثم وفصله من القول في هذه المسألة الخلافية بين السنة والشيعة نجده يتبع خطاب الاعتدال في معالجة المسألة، مع توضيح رأيه بكل دقة وجزم، فهو لم يذهب مع الرأي القائل بتواتر هذه الخطبة كما ادعى بعض الشيعة، ولم يقبل بإنكار مسألة الخلاف حول الخلافة كما يذهب بعض السنة، إذ قال: ( أما المدعون لتواتر هذه الألفاظ من الشيعة فإنهم في طرف الإفراط، وأما المنكرون لوقوعها أصلاً فهم في طرف التفريط ) (5) أما رأيه فهو لم يقل بالتواتر اللفظي للخطبة وإن اعتبرها صحيحة، ولم يقبل بإنكارها لأنه لا يمكن نكران ما حصل من أمر الخلافة، فكل كتب التاريخ تتحدث عما حدث بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم )، ولذلك قال الشيخ ميثم: ( وعلى هذا التقرير لا يبقى لإنكار كون هذه الخطبة صادرة عنه (عليه السلام) ونسبتها إلى الرضي معنى ) (6) .
والجميل في كلام الشيخ ميثم ما احتمله من نكران الطرف الآخر لهذه الخطبة في وجهه الأول إذ قال: ( أن يقصدوا بذلك توطية العوام، وتسكين خواطرهم عن إثارة الفتن والتعصبات الفاسدة ليستقيم أمر الدين ويكون الكل على نهج واحد فيظهروا لهم أنه لم يكن بين الصحابة الذين هم أشراف المسلمين وساداتهم خلاف ولا نزاع ليقتدي بحالهم من سمع ذلك، وهذا مقصد حسن ونظر لطيف لو قصد ) (7) وهذا التأويل للطرف الآخر في مسألة الخلافة يمثل قمة الاعتدال في الخطاب، والحرص على وحدة المسلمين، والابتعاد عن المشاحنات المذهبية والطائفية التي قد توقد نار الفتنة بما يضر بمصالح كل المسلمين.
2ـ شرحه لخطبة رقم 74:
ويستمر الشيخ ميثم البحراني في خطابه الوحدوي حول مسألة الخلافة المختلف حولها، فعندما يشرح كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في الخطبة ( رقم 74 ) لما عزموا على بيعة عثمان، إذ قال (عليه السلام): ( لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري، ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا عليَّ خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه ) (8) .
قال الشيخ ميثم شارحاً هذا الكلام: إن غرض الإمام علي (عليه السلام) (هو صلاح حال المسلمين واستقامة أمورهم وسلامتهم عن الفتن، وقد كان لهم بمن سلف من الخلفاء قبله استقامة أمر وإن كانت لا تبلغ عنده كمال استقامتها لو ولي هو هذا الأمر، فلذلك أقسم ليسلمن ذلك الأمر ولا ينازع فيه؛ إذ لو نازع فيه لثارت الفتنة بين المسلمين وانشقت عصا الإسلام وذلك ضد مطلوب الشارع، وإنما يتعين عليه النزاع والقتال عند خوف الفتنة وقيامها ) (9).
فالإمام علي (عليه السلام) يهمه ـ بحسب رأي ابن ميثم ـ صيانة مصالح المسلمين، والحفاظ على وحدتهم، وضمان مصالحهم العامة، والقضاء على الفتنة بينهم، وإن كان في ذلك ظلم على الإمام علي (عليه السلام) خاصة، فالحفاظ على الوحدة الإسلامية أهم من الدخول في صراع مع من سبقه من خلفاء، وإن كان ذلك يؤدي قهراً إلى ضياع حقه في الخلافة، مع علم الجميع ـ كما أشار الإمام نفسه ـ إلى أنه أحق الناس بالخلافة من غيره.
3 ـ شرحه لخطبة الإمام علي (عليه السلام) رقم 162:
سأل رجل الإمام علي (عليه السلام) هذا السؤال: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟
فقال الإمام علي (عليه السلام): ( أما الاستبداد علينا بهذا المقام، ونحن الأعلون نسباً، والأشدون برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) نوطاً، فإنها كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين و الحَكَمُ الله، والمعود إليه القيامة.
ودع عنك نهباً صيح في حجراته (10) .
وهلم الخطب في ابن أبي سفيان ) (11) .
يقول الشيخ ميثم شارحاً كلام الإمام (عليه السلام): ( أما الاستبداد يعود إلى معنى الإثرة في الاستبداد، والقوم الذين شحوا عليها فعند الإمامية: من تقدم عليه في الإمامة. وعند غيرهم فربما قالوا: المراد بهم أهل الشورى (12) بعد مقتل عمر ) (13) فابن ميثم لا يكتفي بذكر رأي الإمامية، وإنما بأتي برأي مخالفيهم أيضاً.
ويضيف ابن ميثم بعد أن ذكر استشهاد الإمام علي (عليه السلام) بصدر البيت ( فدع عنك نَهْبَاً صيح في حجراته ): أن وجه مطابقته لما هو فيه: ( أن السابقين من الأئمة وإن كانوا قد استبدوا بهذا الأمر فحديثهم مفهوم. إذ لهم الاحتجاج بالقدمة في الإسلام والهجرة وقرب المنزلة من الرسول وكونهم من قريش. فدع ذكرهم وذكر نهبهم هذا المقام فيما سبق، ولكن هات ما نحن فيه الآن من خطب معاوية بن أبي سفيان، و الخطب هو الحادث الجلل ) (14) .
وفي هذا الشرح أيضاً نلاحظ خطاب الاعتدال جلياً عند الشيخ ميثم، إذ تراه يذكر حجج الخصوم بأحقية تولى الخلافة لمن سبق الإمام علي (عليه السلام)، مع أن ذلك خلاف معتقده، وهذا إن دَلَّ على شيء فإنما يدل على أن منهج الشيخ ميثم منهج موضوعي وعلمي، كما أنه بعيد عن روح التعصب المذموم، أو احتقار آراء الآخر، وهذا الأسلوب لا يتبعه إلا أهل القامات الشامخة في العلم، والقمم الرفيعة في الوعي والنضج الاجتماعي والسياسي والثقافي.
كما أن في كلام الإمام علي (عليه السلام) إشارة هامة إلى ضرورة الانشغال بقضايا الراهن، وعدم الاستغراق في قضايا الماضي بما يحجب عن قضايا الحاضر والمستقبل،إذ يقول (عليه السلام) مستشهداً ببيت شعر: ( ودع عنك نَهْبَاَ صيح في حجراته، وَهَلُمَّ الخَطْبَ في ابن أبي سفيان ) فالوقت هو للحديث عن القضية المعاشة آنئذٍ وهو تمرد معاوية على إمام عصره، وعدم مبايعته للإمام علي (عليه السلام)، وهو ما يحتاج إلى معالجة سريعة، أما ما مضى من أحداث تاريخية فليس هذا الوقت مناسباً للحديث عنها، وفي هذا درس مهم لكل الأجيال، إذ يجب الاهتمام بمشاكل الحاضر، والبحث عن معالجات لها، والاستفادة من دروس الماضي دون الاستغراق فيها.
4ـ النهي عن السب:
من كلام للإمام علي (عليه السلام)، وقد سمع قوماً من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين، فقال: ( إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به ) (15) .
قال العالم الرباني الشيخ ميثم البحراني شارحاً كلام أمير المؤمنين (عليه السلام): (وحاصل الفصل تأديب قومه وإرشادهم إلى السيرة الحسنة وجذب لهم عن تعويدها وتمرينها بكلام الصالحين، ونبه بكراهته للسب والنهي عنه على تحريمه، ونحوه إشارة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) بقوله: ( ما بعثت لعاناً ولا سباباً ). وقوله: (اللهم إني بشر فإذا دعوت على إنسان فاجعل دعائي له لا عليه واهده إلى الصراط المستقيم ).
وقوله: لو وصفتم. إلى قوله: في العذر.
أي لوعدلتم عن السباب إلى وصف أعمالهم وتذكيرهم بكونهم ظالمين لكم وضالين عن السبيل ذكراً على وجه النصيحة والهداية لهم. ثم قلتم مكان سبكم إياهم هذا الدعاء لكان أصوب في القول مما ذكرتموه من رذيلة السباب، ولأن في تذكيرهم بأحوالهم و نصيحتهم إياهم فائدة، وهي رجاء أن يعودوا إلى الحق، ولأن ذاك أبلغ في العذر إليهم من غيره. إذ لكم أن تقولوا بعد ذلك إنكم نصحتموهم وطلبتم منهم العتبى فلم يستعينوا ) (16) .
فالسباب رذيلة ـ بحسب تعبير ابن ميثم ـ ينبغي عدم التعود عليها، وترويض النفس على ضبط المشاعر حتى تجاه الأعداء، فالإمام علي (عليه السلام) يوجه أصحابه أن يدعو لأعدائه الذين كانوا في حرب معه بصفين بالقول: ( اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأهدهم من ضلالتهم ... إلخ ) فالإمام يريد الهداية حتى لأعدائه، فالأئمة رحمة للناس، وحتى الدخول مع الأعداء في حرب ومقاتلتهم إنما هو لإرجاعهم لطريق الهداية والحق، وليس بهدف القضاء عليهم أو الانتقام منهم.
والخلاصة: إن الشيخ ميثم البحراني (قدس سره) قد اتبع في شرح النهج وغيره من مؤلفاته القيمة منهج التوازن في الطرح، والاعتدال في الخطاب، والإنصاف للآخر المخالف، وعدم المجاملة في قول الحق، واستخدام الألفاظ الجاذبة للقلوب، والموجدة للنفوس؛ بالرغم من أنه لم يكن يعيش في أجواء التقية التي تفرض عليه اتباع ذلك، ومن هنا يعد هذا المنهج فضيلة له، ويدل على قناعته باستخدام المنهج العلمي في مناقشة كل القضايا التاريخية والمسائل الكلامية التي هي محل الخلاف الشديد.
وما أحوجنا في هذا العصر، وفي كل عصر، لاتباع هذا المنهج العلمي الموضوعي، واستخدام خطاب الاعتدال واحترام الآخر، بعيداً عن خطاب التطرف والعصبية والشحن المذهبي والذي لا يؤدي إلا إلى بروز الفتن، وزيادة الاحتقان بين المسلمين، ونشر الكراهية بين أتباع المذاهب الإسلامية.
إننا أحوج ما نكون في عصرنا إلى خطاب كخطاب الشيخ ميثم البحراني وأضرابه من الشخصيات البارزة والتي تقدم مصلحة الأمة على مصلحة الطائفة، والحفاظ على بيضة الإسلام في مقابل الأعداء الحقيقيين، مع احتفاظ كل مذهب بآرائه العقدية والفقهية، واحترام وجهة الطرف الآخر كما فعل الشيخ ميثم دون الإيمان بما يعتقده في مسائل الخلاف، مع العلم أن ما يجمع بين المسلمين يمثل المساحة الكبرى بينهم، ومسائل الخلاف قليلة وهي بحاجة إلى نقاش علمي مع الالتزام بأخلاقيات الاختلاف وآداب الحوار.
الاعتدال يعزز الوحدة الإسلامية
طوال التاريخ كان خطاب الاعتدال، والتركيز على المشتركات بين المسلمين، وتجنب المسائل المثيرة للفتن بين أتباع المذاهب الإسلامية هو منهج العلماء الربانيين، ونهج المرجعية الدينية الرشيدة، فالعالم الرباني الشيخ ميثم البحراني هو مثال بارز للعالم الذي يهمه الحفاظ على وحدة المسلمين، وتجنب كل ما يسيئ للآخر المخالف، ومناقشة مسائل الخلاف بروح علمية رصينة بعيداً عن الشحن الطائفي أو التعبئة التحريضية المقيتة.
وعلى هذا النهج سار كل العلماء الربانيين المصلحين الذين لا هَمَّ لهم سوى الحفاظ على وحدة المسلمين، والدفاع عن مصالحهم العامة، والابتعاد عن كل ما يثير النفوس، ويؤجج مسارب الصراع؛ هكذا كان الشيخ ميثم البحراني ( 636 ـ 699هـ/ 1239ـ 1300م )، وهكذا كان كبار علمائنا كالمجدد السيد محمد حسن الشيرازي ( 1230 ـ 1312 هـ )، والسيد جمال الدين الأسد آبادي ( 1254 ـ 1314هـ )، والشيخ محمد كاظم الآخوند الخراساني ( 1255 ـ 1329 هـ)، والسيد محمد سعيد الحبوبي ( 1266 ـ 1333 هـ )، والشيخ محمد تقي الشيرازي ( 1256 ـ 1338هـ )، والشيخ فتح الله الأصفهاني ( 1266 ـ 1339 هـ )، والسيد عبد الحسين شرف الدين ( 1290 ـ 1377 هـ )...وأضرابهم من القامات العلمية الشاهقة. وجاء البيان الأخير للمرجع الديني السيد علي السيستاني ( دام ظله ) في نفس اتجاه نهج الاعتدال في الخطاب، والدعوة إلى توحيد الصفوف ونبذ الفرقة، والابتعاد عن النعرات الطائفية، وتجنب إثارة الخلافات المذهبية العقيمة، والتركيز على توثيق أواصر المحبة والمودة بين أبناء الأمة الإسلامية الواحدة.
ولأهمية هذا البيان في تعزيز ثقافة التسامح المذهبي، وتعميم خطاب الاعتدال، ننقل نصه كاملاً: (( تمرّ الأمة الإسلامية بظروف عصيبة و تواجه أزمات كبرى و تحدّيات هائلة تمس حاضرها و تهدّد مستقبلها، و يدرك الجميع ـ و الحال هذه ـ مدى الحاجة إلى رصّ الصفوف و نبذ الفرقة و الابتعاد عن النعرات الطائفية و التجنّب عن إثارة الخلافات المذهبية، تلك الخلافات التي مضى عليها قرون متطاولة و لا يبدو سبيل إلى حلّها بما يكون مرضيّاً و مقبولاً لدى الجميع، فلا ينبغي إذاً إثارة الجدل حولها خارج إطار البحث العلمي الرصين، و لاسيما أنها لا تمس أصول الدين و أركان العقيدة، فإن الجميع يؤمنون بالله الواحد الأحد و برسالة النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) و بالمعاد و بكون القرآن الكريم ـ الذي صانه الله تعالى من التحريف ـ مع السنة النبوية الشريفة مصدراً للأحكام الشرعية و بمودة أهل البيت (عليهم السلام)، و نحو ذلك مما يشترك فيها المسلمون عامة و منها دعائم الإسلام: الصلاة و والصيام والحج وغيرها..
فهذه المشتركات هي الأساس القويم للوحدة الإسلامية، فلا بدّ من التركيز عليها لتوثيق أواصر المحبة و المودة بين أبناء هذه الأمة، و لا أقل من العمل على التعايش السلمي بينهم مبنياً على الاحترام المتبادل و بعيداً عن المشاحنات و المهاترات المذهبية و الطائفية أيّاً كانت عناوينها.
فينبغي لكل حريص على رفعة الإسلام و رقيّ المسلمين أن يبذل ما في وسعه في سبيل التقريب بينهم و التقليل من حجم التوترات الناجمة عن بعض التجاذبات السياسية لئلا تؤدي إلى مزيد من التفرق و التبعثر و تفسح المجال لتحقيق مآرب الأعداء الطامعين في الهيمنة على البلاد الإسلامية و الاستيلاء على ثرواتها.
و لكن الملاحظ ـ و للأسف ـ أن بعض الأشخاص و الجهات يعملون على العكس من ذلك تماماً و يسعون لتكريس الفرقة و الانقسام و تعميق هوة الخلافات الطائفية بين المسلمين، و قد زادوا من جهودهم في الآونة الأخيرة بعد تصاعد الصراعات السياسية في المنطقة و اشتداد النزاع على السلطة و النفوذ فيها، فقد جدّوا في محاولاتهم لإظهار الفروقات المذهبية و نشرها بل و الإضافة عليها من عند أنفسهم مستخدمين أساليب الدسّ و البهتان لتحقيق ما يصبون إليه من الإساءة إلى مذهـب معين و التـنقيص من حقوق أتباعه و تخويف الآخرين منهم.
و في إطار هذا المخطط تنشر بعض وسائل الإعلام ـ من الفضائيات و مواقع الانترنت و المجلات و غيرها ـ بين الحين و الآخر فتاوى غريبة تسيء إلى بعض الفرق و المذاهب الإسلامية و تنسبها الى سماحة السيد ( دام ظله ) في محاولة واضحة للإساءة إلى موقع المرجعية الدينية و بغرض زيادة الاحتقان الطائفي وصولاً إلى أهداف معينة.
إن فتاوى سماحة السيد ( دام ظله ) إنما تؤخذ من مصادرها الموثوقة ـ ككتبه الفتوائية المعروفة الموثّقة بتوقيعه و ختمه ـ و ليس فيها ما يسيء إلى المسلمين من سائر الفرق و المذاهب أبداً، و يعلم من له أدنى إلمام بها كذب ما يقال و ينشر خلاف ذلك .
و يضاف إلى هذا أن مواقف سماحته و البيانات الصادرة عنه خلال السنوات الماضية بشأن المحنة التي يعيشها العراق الجريح، و ما أوصى به أتباعه و مقلّديه في التعامل مع إخوانهم من أهل السنة من المحبة و الاحترام ، و ما أكّد عليه مراراً من حرمة دم كل مسلم سنياً كان أو شيعياً و حرمة عرضه و ماله و التبرؤ من كل من يسفك دماً حراماً أيّاً كان صاحبه .... كل هذا يفصح بوضوح عن منهج المرجعية الدينية في التعاطي مع أتباع سائر المذاهب و نظرتها إليهم، و لو جرى الجميع وفق هذا المنهج مع من يخالفونهم في المذهب لما آلت الأمور إلى ما نشهده اليوم من عنف أعمى يضرب كل مكان و قتل فظيع لا يستثني حتى الطفل الصغير و الشيخ الكبير و المرأة الحامل و إلى الله المشتكى )) (17) .
وهذا البيان المهم للغاية الذي أصدره المرجع السيد السيستاني ( دام ظله ) يتسق مع الخط العام لعلمائنا الربانيين كمنهج العالم الرباني الشيخ ميثم البحراني (قدس سره) والذي يركز على التسامح مع الآخر، واحترام رأي المخالف، والتركيز على ما يجمع بين المسلمين، والابتعاد عن كل ما يثير الفتن الهوجاء، والتحذير من الدس واختلاق الأكاذيب بما يهيئ الأرضية المناسبة لنمو الفتن والصراعات؛ وهو الأمر الذي يخدم أعداء الأمة الإسلامية.
إننا بحاجة ماسة إلى تعزيز الخطاب المعتدل، وتمتين التواصل بين المسلمين، والتركيز على القواسم المشتركة بينهم، و تجنب كل ما يسبب الكراهية والأحقاد بين أتباع المذاهب الإسلامية؛ وبذلك نستطيع الحفاظ على مصالح المسلمين، كل المسلمين، وإفشال مؤامرات الأعداء الذين يسعون إلى بث الفرقة والتناحر بين أتباع المذاهب الإسلامية المختلفة، ولنتذكر دائماً قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ﴾ (18).
ــــــــــــــ
الهوامش:
1ـ شرح نهج البلاغة، الشيخ ميثم البحراني، ج 1، ص 4.
2ـ انظر شرح نهج البلاغة، الشيخ ميثم البحراني، ج 4، ص 97.
3ـ انظر شرح نهج البلاغة، الشيخ ميثم البحراني، ج 1، ص 148.
4ـ شرح نهج البلاغة، الشيخ ميثم البحراني، ج 1، ص 251ـ 252.
5ـ شرح نهج البلاغة، الشيخ ميثم البحراني، ج 1، ص 251.
6ـ شرح نهج البلاغة، الشيخ ميثم البحراني، ج 1، ص 252.
7ـ شرح نهج البلاغة، الشيخ ميثم البحراني، ج 1، ص251.
8 ـ نهج البلاغة، ج 1، ص 180، خ 74.
9 ـ شرح نهج البلاغة، الشيخ ميثم البحراني، ج 2، ص 205.
10 ـ البيت لإمرئ القيس. وتتمته: وهات حديثاً ما حديث الرواحل.
11 ـ نهج البلاغة، ج 2، ص 352، رقم 162.
12 ـ أهل الشورى هم: الإمام علي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص.
13 ـ شرح نهج البلاغة، الشيخ ميثم البحراني، ج 3، ص 294.
14 ـ شرح نهج البلاغة، الشيخ ميثم البحراني، ج 3، ص 295.
15 ـ نهج البلاغة، ج 2، ص 469، خ 206.
16 ـ شرح نهج البلاغة، الشيخ ميثم البحراني، ج 4، ص13.
17 - بيان صادر عن مكتب السيد السيستاني بالنجف الأشرف بتاريخ 14/1/1428هـ - 3/2/2007م، موقع آية الله العظمى السيد علي السيستاني www.sistani.org
18 - سورة آل عمران: الآية 103.