في صبيحة يوم الأحد 26 جمادى الأولى 1429هـ الموافق غرة يونيو 2008م انتقل إلى رحمة الله تعالى آية الله السيد محمد رضا الشيرازي ( قدس سره )، وكان لهذا الخبر المفاجئ صدمة للكثيرين ممن عرفوا سماحة السيد الشيرازي، أو عاشوا معه، أو تلقوا العلم من منهل علومه ومعارفه، أو استمعوا لمحاضراته القيمة والمؤثرة، أو التقوا به ولو لمرة واحدة.
وبحكم معرفتي بسماحة آية الله السيد محمد رضا الشيرازي منذ أكثر من عقدين من الزمن، ومجالستي معه، وحضوري لبحثه الخارج في الأصول لبعض الوقت في العامين 1422هـ و 1423هـ، واستماعي لمحاضراته القيمة، أصبتُ بصدمة ـ ككثيرين غيري ـ عندما سمعت بوفاته، و دمعت عيناي لرحيله المفاجئ، والسر في ذلك أنه يترك بصماته على كل من يعاشره ويلتقي به، ويلتمس حسن الأخلاق في شخصيته.
كان السيد الشيرازي مثالاً ونموذجاً للعالم الرباني، كما قال الإمام علي ( عليه السلام ) وهو يقسم الناس إلى ثلاثة في حديثه لكميل بن زياد، إذ يقول ( عليه السلام ): (( الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق )) (1).
والعالم الرباني هو الذي يعرف الله تعالى حق معرفته، وهو العامل بما يعرف، وهو الذي يكرس حياته كلها من أجل الله، ومن أجل تطبيق شرع الله تعالى.
وهكذا كان السيد محمد رضا الشيرازي نموذجاً حياً للعالم الرباني في مختلف أبعاد حياته، وفي سلوكياته وسيرته ومسيرته، ولتوضيح هذه الصورة النموذجية نركز على الأبعاد التالية في شخصيته:
1 ـ البعد الروحي والمعنوي:
كان السيد محمد رضا الشيرازي ( قدس سره ) مثالاً للعالم الورع التقي الزاهد، وقد انعكس هذا على سلوكياته الشخصية، فهو طاقة وقادة من المعنويات، وكان يترك تأثيره على كل من يجالسه، فهو دائم الحديث عن الموت، وعالم البرزخ، ومعالم الآخرة، وهو فعلاً ينطبق عليه الحديث الشريف الروي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) عندما سُئِل عن قول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ): النظر في وجوه العلماء عبادة. قال ( عليه السلام ): (( هو العالم الذي إذا نظرت إليه ذكرك الآخرة، ومن كان خلاف ذلك فالنظر إليه فتنة )) (2) فقد كان السيد الشيرازي دائماً ما يذكرك بالآخرة، ويرغبك في لقاء الله تعالى، ويحث على الاستعداد للموت، وحمل الزاد للسفر إلى عالم الآخرة.
كان حديث السيد عن ذلك مؤثراً، والسر في ذلك أنه يفعل ما يقول، كان يخرج الكلام من قلبه، وما خرج من القلب دخل إلى القلب.
كان السيد الراحل طاقة كبيرة من المعنويات، ومنبعاً للروحيات، ومنهلاً لكل من يبحث عن السمو والارتقاء إلى عالم اللا مادة... إنه صورة يجسد معالم العالم الرباني الذي يربطك بالله عز وجل، ويذكرك بالآخرة، ويزهدك في الدنيا.
2 ـ البعد الأخلاقي:
كان آية الله السيد محمد رضا الشيرازي يتميز بأخلاق عالية جداً، بل هو مدرسة أخلاقية متكاملة، فهو حلو المعشر، طيب النفس، يحترم جميع الناس، الابتسامة المشرقة بالإيمان لا تفارقه لحظة، الإحسان إلى الآخرين، التواضع من غير اصطناع، إكرام الضيف أيما إكرام.
هذه ليست مجرد كلمات عن أخلاقياته وآدابه، وإنما هي سمات التمستُها من خلال معرفتي به، ومعاشرتي له، وجلوسي في محضر دروسه وبحوثه، بل وعرفها كل من عرفه، لذلك أصبح محبوباً عند كل من عاشره أو جالسه أو سمع عنه.
أذكر في هذا البعد الأخلاقي بعض القصص عن أخلاقياته الفاضلة، فعن إكرام الضيف كان يصر على كل شخص أو مجموعة من الزوار أن يتناولوا وجبة من الغذاء على مأدبته، وكل الزوار يعرفون ذلك. أتذكر مرة ذهبنا إلى الكويت في عقد التسعينيات عندما كان هناك، وأصرَّ علينا أن نتناول وجبة الغذاء عنده، وكنا أربعة أشخاص، وطلبنا منه أن يعذرنا من ذلك خوفاً من مزاحمته. لكن كان يقول: هذه رحمة !
و حاولنا نتهرب منه بشتى الأعذار خوفاً من تضييع وقته، ومزاحمته في ذلك إلا أنه لم يترك لنا فرصة إلا أن نستجيب.
وأخيراً: عندما رأي إصرارنا على عدم الموافقة اقترح أن يأخذ لنا خيرة، فإن كانت جيدة علينا أن نوافق، وإن كانت نهي فهو سيعذرنا.
وافقنا على هذا الاقتراح، وكانت الخيرة جيدة، فلم يكن أمامنا إلا أن نوافق!
وعندما حضرنا لتناول وجبة الغذاء كان الخادم يساعده، إلا أنه بنفسه الشريفة كان يقدم لنا الطعام، ويناولنا الأكل، ويحثنا على الأكل بكل أريحية وترابية!
ومن صور تقديره للزوار والضيوف أيضاً إصراره على المجيء لزيارتهم، والاحتفاء بهم، وكنا عندما نذهب لقم المقدسة يصر على المجيء إلينا، فنقول له: سيدنا نحن نأتي إليك.
إلا أنه يصر على المجيء إلينا ويقول: لكل قادم كرامة ! أنا أزوركم، ويأتي في الموعد المحدد بالضبط.
أما عن تواضعه فالجميع يتحدث عن ذلك، دعوني أحدثكم عن صورة من تواضعه العلمي، كنت عندما أزوره أهديه آخر إصداراتي من الكتب، و أقول له في كل مرة: سيدنا أنتظر أية ملاحظات أو نقد أو توجيه لما أكتب.
فيقول لي: أنا أستفيد مما تكتب شيخنا !!
إنه التواضع العلمي الرفيع، حيث يشعرك بمكانتك وأهميتك وعلمك، وكأنه التلميذ و أنت الأستاذ، مع العلم أنه الأستاذ وأنا التلميذ!
ومن مناقبياته الأخلاقية أيضاً: أنه يرفض الكلام ضد أي شخص أو جهة حتى وإن كان الطرف الآخر ضده. وقد يحاول البعض أحياناً جره إلى الحديث عن فلان أو علان لكنه يرفض ذلك، ويغير الحديث إلى تهذيب النفس وتعديل السلوك!
وكان حليماً واسع الصدر،كان يقف لفترات طويلة مع الزوار، فهذا يطلب منه أن يكتب له دعاء بخط يده، وآخر يطلب منه أن يدعو لمريض، وثالث يطلب منه نصيحة... وقس على ذلك بقية الأمثلة. ويبقى مستجيباً لرغبات الناس من دون تبرم أو ضيق، إنه العالم الحليم، فقد روي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قوله: كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقول: (( إن للعالم ثلاث علامات: العلم، والحلم، والصمت. وللمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه بالمعصية، ويظلم من دونه بالغلبة، ويظاهر الظلمة )) (3) .
إنه رفيق في قوله، وعمله، وسلوكه مع الناس، كل الناس، قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ): (( رأس العلم الرفق، وآفته الخرق )) (4) .
كانت سيرته الأخلاقية هي نفس ما يدعو إليه في محاضراته، كانت أفعاله وسيرته تتطابق مع أقواله ومحاضراته، كان يفعل ما يقول، وكان مصداقاً عملياً لأخلاق أهل البيت وسيرتهم العطرة.
ولا عجب بعد ذلك أنه يأسرك بأخلاقه الفاضلة، ومناقبياته الراقية، فيصبح محبوباً لديك، ومشتاقاً لرؤيته كلما سنحت لك الفرصة للقائه، فالنفوس جبلت على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها.
3 ـ البعد العلمي:
يتمتع السيد محمد رضا الشيرازي بطاقة علمية كبيرة، فقد كان عبقرياً في علوم الشريعة، وكان متابعاً للعلوم الحديثة، ومطلعاً على الثقافة المعاصرة، و كانت دروسه في بحث الخارج في علمي الفقه والأصول تُرشد إلى تضلعه الكبير في هذين العلمين، و كان يتميز بشمولية و إحاطة لمختلف جوانب المطالب العلمية التي يبحثها في بحوثه العلمية، وكان مدرساً لبحث الخارج في حوزة قم المقدسة من عام 1408هـ حتى وفاته، ولم يقتصر اهتمامه العلمي بذلك، بل اهتم بجوانب علمية أخرى... إذ كان يركز أيضاً على الأمور التالية:
أ ـ علم العقيدة:
العقيدة جوهر الدين، وبدونها يفقد الدين جوهره وأساسه، ولأهمية بيان مسائل العقيدة للناس، كان آية السيد محمد رضا يركز كثيراً على المسائل العقدية، وبيان أهم المرتكزات العقدية، ورد الشبهات التي تثار حول مسائل العقيدة.
وكان أسلوبه في طرح المسائل العقائدية يجمع بين الوضوح في الأسلوب والدقة العلمية في المضمون، وهو الأمر الذي جعله من أهم المتحدثين في هذا البعد المهم من الدين.
ب ـ سيرة أهل البيت ( عليهم السلام ):
لعلَّ من أهم اهتمامات السيد محمد رضا الشيرازي ( قدس سره ) هو تسليط الأضواء على سيرة ومسيرة أهل بيت النبوة، الذين أذهب الله عنهم الرجس كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ (5).
والمتابع لمحاضرات سماحة السيد ( قدس سره ) يلحظ أن كثيراً من محاضراته تتحدث عن الجوانب المشرقة للسيرة العطرة للأئمة المعصومين ( عليهم السلام )، و ربط الأجيال الشابة بأهل البيت ( عليهم السلام )، الذين هم معادن العلم، وينابيع الحكمة، ومنبع الطهارة، وينبوع السمو الروحي والمعنوي.
جـ ـ القضايا الاجتماعية:
كان من ضمن اهتمامات آية الله السيد محمد رضا الشيرازي أيضاً التركيز على القضايا الاجتماعية كقضايا الأسرة، ومسائل الزواج، وتربية الأولاد، والاهتمام بالشباب والشبائب، وتقديم معالجات للمشاكل الاجتماعية.
والمتتبع لمحاضرات السيد يجد أنه متابع دقيق لقضايا المجتمع ومشاكله وهمومه وتطلعاته وآماله.
خلاصة القول: إن من يقرأ كتب السيد وخاصة كتابه ( الترتب ) في علم الأصول وكتابه ( كيف نفهم القرآن الكريم ) وكتابه ( التدبر في القرآن الكريم )، ومن يستمع لمحاضراته المتنوعة في مختلف العلوم والمعارف، يجد نفسه أمام علامة في غير علم، وفقيه متمكن في مسائل الفقه وأصوله، ومطلع ناقد على التحولات الفكرية والثقافية.. إنه باختصار عقلية علمية متميزة، وعبقرية فذة، وطاقة فكرية خلاقة.
هل يموت العالم الرباني؟
قدر الإنسان أن يموت ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ (6) ولكن الموت ليس نهاية الإنسان، وإنما هو انتقال من عالم الدنيا إلى عالم البرزخ ثم عالم الآخرة، حيث الجزاء والمصير الدائم؛ إما الجنة أو النار.
وإذا كان الإنسان العادي، أو العالم غير الرباني ينساه الناس سريعاً بعد موته، ويصبح كمئات الملايين من الناس ممن يأتون إلى الدنيا ثم يذهبون عنها، بدون أن يكون لهم ذكر في سجل الخالدين؛ لكن العالم الرباني يبقى حباً بسيرته العطرة، وبأخلاقه الفاضلة، وبعلمه المشع إلى كل مكان.
وقد أَكَدََّ الإمام علي ( عليه السلام ) على هذه الحقيقة بقوله: (( هلك خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر. أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة )) (7) وقال ( عليه السلام ) أيضاً: (( العالم حي وإن كان ميتاً، والجاهل ميت وإن كان حياً )) (8) فالعالم الرباني حي بروحه، وحي بعلمه، وحي بسيرته. وعليه، فإن آية الله السيد محمد رضا الشيرازي لن يموت وإن غاب عنا بجسده، ستبقى روحه بيننا، سيبقى علمه الموسوعي يشع في كل أرجاء الدنيا، ستبقى محاضراته المتنوعة تُسْمَعُ في كل مكان، ستبقى سيرته الأخلاقية مدرسة ومنارة لكل الباحثين عن مكارم وفضائل الأخلاق.
وسيبقى العالم الرباني آية السيد محمد رضا الشيرازي مخلداً في ديوان العلماء الربانيين، ومسجلاً في سجلات المخلدين إلى يوم الدين. قال تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾ (9).
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين
ـــــــــــ
الهوامش:
1 ـ نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي، دار البلاغة، بيروت ـ لبنان، الطبعة الرابعة 1409هـ ـ 1989م، ج 4، ص 695، رقم 147.
2 ـ ميزان الحكمة، محمد الريشهري، مؤسسة دار الحديث الثقافية، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية 1419هـ، ج 5، ص 2070، رقم 13738.
3 ـ بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 2، ص 59، رقم 42.
4 ـ بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 2، ص 85، رقم 38.
5 ـ سورة الأحزاب، الآية: 33.
6 ـ سورة العنكبوت، الآية : 57.
7 ـ نهج البلاغة،، جمع الشريف الرضي، دار البلاغة، بيروت ـ لبنان، الطبعة الرابعة 1409هـ ـ 1989م، ج 4، ص 696، رقم 147.
8 ـ ميزان الحكمة،، محمد الريشهري، مؤسسة دار الحديث الثقافية، بيروت ـ لبنان، الطبعة الثانية 1419هـ، ج 5، ص 2068، رقم 13707.
9 ـ سورة الأحزاب: الآية 23.