يُعد سماحة الشيخ عبد الله اليوسف، واحداً من أبرز الباحثين من علماء الدين في مجالات النقد والفكر والمعرفة، فضلاً عن اهتماماته العميقة بشؤون القرآن الكريم، قراءة وبحثاً وتأويلاً، ناهيك عن اشتغاله العميق على فكرة(العدالة الاجتماعية) ليس من منظور ديني أو نصوصي فحسب، بل ودراستها من خلال تجارب الشعوب القديمة منها والمعاصرة. الشيخ اليوسف معظم بحوثه المتعددة والمتنوعة تميزت بمسارها العلمي الموضوعي والحديث، وهذا ليس بمستغرب منه أبدَا، فهو في الوقت الذي بدأ حياته في طلب العلم والمعرفة بعد أن كانت الحوزة العلمية الحاضنة الرئيسة له، أيضاً ذهب ليحلق عالياً في فضاء الدراسة الأكاديمية فهو مؤخراً حصل على شهادة الدكتوراه بامتياز في علم الاجتماع عن رسالته الموسومة بـ(العنف الأسري) بعد أن حاز إعجاب مدرسيه وذوي البحث العلمي.
مركز آفاق يحاور الشيخ اليوسف حول فكرة "العدالة الاجتماعية" من حيث المفهوم والمسار والنتائج، فجاءت معظم إجاباته لترسم خطاً واضحًا ومتينًا في لوحة الوعي الاجتماعي، مُشدداً فيه على لازمة القانون الشفاف باعتباره الدستور الناظم للحراك الاجتماعي والتدافع الإنساني .. ونترككم مع الحوار :
س1/ حسب وجهة نظركم، ما المقصود بمفهوم "العدالة الاجتماعية"!؟
ج1/ مفهوم العدالة الاجتماعية نقصد به: رعاية الحقوق العامة للمجتمع والأفراد، وإعطاء كل فرد من أفراد المجتمع ما يستحقه من حقوق واستحقاقات، والتوزيع العادل للثروات بين الناس، والمساواة في الفرص، وتوفير الحاجات الرئيسة بشكل عادل، واحترام حقوق الإنسان المعنوية والمادية.
ثم إن مفهوم العدالة الاجتماعية مفهوم شامل وعام يتناول كل جوانب وأبعاد النظام السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي والحقوقي والإنساني، وعندما يختل أي بعد من هذه الأبعاد فهذا يعني أن العدالة الاجتماعية تعاني من ثقوب كبيرة، وأن المجتمع لا ينعم بالعدالة الاجتماعية الشاملة.
س2/ ما هي مقومات العدالة الاجتماعية ؟
ج2/ للعدالة الاجتماعية مقومات عديدة، ويمكن الإشارة إلى أهمها ضمن النقاط التالية:
1- المساواة بين الناس:
ونقصد بذلك المساواة بين الناس أمام الشرع والقانون، والمساواة في الحقوق والواجبات، والمساواة في تقلد المناصب العامة، والمساواة في الحصول على المكاسب والامتيازات والمنافع.
وإذا ما شعر الجميع بالمساواة الحقيقية فيما بينهم؛ فإن ذلك يؤكد الحيوية والنشاط والتفاعل والتنافس الشريف بين مختلف أفراد المجتمع وشرائحه. أما غياب المساواة، فيؤدي إلى انتشار المحسوبيات في الحياة العامة، والشعور بالإحباط والتذمر، وانعدام تكافؤ الفرص، وهجرة العقول، وانتشار الظلم وغياب العدل.
2- التوازن الاجتماعي:
ونقصد به التوزيع العادل للثروات، والتوازن بين أفراد المجتمع في مستوى المعيشة وليس في مستوى الدخل، فالإسلام يسعى من خلال تشريعاته إلى خلق مجتمع قادر على التقارب في الحياة المعيشية، بما يؤذي إلى توازن المجتمع، والقضاء على الطبقية المعيشية، ولأجل ذلك أكد الإسلام على سلب بعض القيمة الفائضة من يد الأغنياء من خلال وجوب أداء الواجبات المالية، ورفع مستوى الفقراء إلى المستوى العام في المجتمع.
وقد أشار القرآن الكريم إلى ضرورة إيجاد التوازن بين الفئات الاجتماعية، وإزالة الطبقية القائمة على إعلاء طبقة اجتماعية معينة وإنزال فئة اجتماعية أخرى كما في قوله تعالى: ﴿مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ﴾.
والعدالة الاقتصادية التي هي جزء من العدالة الاجتماعية لا يمكن أن تتحقق من دون توزيع عادل للثروات، ومشكلة المشاكل في عصرنا هو تمركز الثروات عند فئة قليلة من الناس في حين تعيش الغالبية العظمى في فقر مدقع، وبذلك يزداد الغني غنى والفقير فقراً !!
والتوازن الاجتماعي حتى يتحقق نحتاج إلى الاهتمام بالطبقات الاجتماعية الضعيفة والمحرومة والمهمشة، والمساواة في توزيع الثروات مع تساوي الحقوق والاستحقاقات، وتوفير مستلزمات العيش بكرامة وعزة.
3- احترام حقوق الإنسان:
المقوم الثالث والمهم من مقومات العدالة الاجتماعية احترام حقوق الإنسان المعنوية والمادية، فصيانة حقوق الإنسان واحترامها والدفاع عنها، مؤشر على وجود العدالة الاجتماعية، وغيابها دليل واضح على غياب العدالة الاجتماعية أو نقصانها.
س3/ ما هي صور العدالة الاجتماعية وأين تمظهر هذا المفهوم ؟
ج3/ صور العدالة الاجتماعية تتمظهر في زوايا مختلفة، ففي الجانب السياسي تبرز العدالة الاجتماعية بوجود نظام سياسي عادل، وفي البعد الاقتصادي تبرز العدالة الاجتماعية وتتمظهر في التوزيع العادل للثروات، والتخطيط الاستراتيجي في إدارة الأموال، وتأسيس المشاريع المنتجة، ووجود نظام اقتصادي يرتكز على العدل في العمل والحقوق، وتوافر المستلزمات المعيشية للجميع من دون تمييز أو تفريق بغير حق.
وفي الجانب القانوني والحقوقي تتجلى العدالة الاجتماعية في وجود قوانين تنظم الحقوق والواجبات للأفراد والمجتمع، ووجود واحترام حقيقي لإنسانية الإنسان وكرامته، وتمتعه بممارسة كافة حقوقه المشروعة دون خوف أو وجل... وعلى ذلك نقيس بقية الصور الجميلة للعدالة الاجتماعية في مختلف أبعادها وجوانبها.
س4/ قد يكون مفهوم العدالة واضحاً وجلياً، لكن كيف يتم التأصيل – الديني أو التأريخي - حين يقترن العدل بالمجتمع ؟
ج4/ دينياً يمكن تأصيل العدالة الاجتماعية من خلال ما ورد في القرآن الكريم من آيات عديدة تشير إلى وجوب العدل والعدالة في كل شيء، فقد ورد في القرآن الكريم الإشارة إلى مختلف أنواع العدالة فيما يقرب من ثلاثين مرة، إلا أن العدالة الاجتماعية بالتحديد قد نالت أكثر من نصف الآيات التي أشارت إلى العدل.
أما في السنة الشريفة فقد ورد الكثير من الروايات والأحاديث التي تدعو إلى العدل في كل شيء، ومرجعية القرآن والسنة هي المعتمد في أي تأصيل لأي قضية
وتاريخياً من السهل جداً تأصيل العدالة الاجتماعية، ويكفي الرجوع إلى سيرة الرسول الأعظم ، وكذلك سيرة الإمام علي أيام حكمه لنعرف مدى العمل الجاد الذي بذل من أجل تطبيق العدالة الاجتماعية.
وقد أشار الإمام علي في عهده القيم والمهم لمالك الأشتر إلى الكثير من الأبعاد المهمة في العدالة الاجتماعية، كما يكشف عن مدى الوعي السياسي والاجتماعي المتقدم الذي كان يتميز به الإمام علي في ذلك الزمان.
س5/ متى يصدق على مجتمع ما أن العدالة قد تحققت فيه، وهل من نموذج في ضمن هذا الإطار ؟
ج5/ تتحقق العدالة في أي مجتمع إذا طبق العدل في كل الأبعاد والجوانب، فالعدل لا يقتصر على جانب دون آخر، إذ يجب أن يعم العدل كل شيء، فالعدل مطلوب في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والتربية والتعليم والحقوق والأسرة، فالعدل محور ومرتكز بناء العدالة الاجتماعية، يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان﴾ فالعدل جوهر الإسلام وروحه، وعليه يرتكز التشريع، وحكمة التكوين، وبناء المجتمع، وإدارة البلاد والعباد.
أما الحديث عن أنموذج مثالي لتطبيق العدالة الاجتماعية فهذا شيء ليس بالأمر السهل؛ لأنه ليس لها - أي العدالة - حدود، فالإسلام يرغب في تحقيق أعلى مستويات العدالة الاجتماعية، بحيث يزول أي شكل من أشكال الجور والظلم الاجتماعي.
وقد سعى الإمام علي إلى تطبيق العدالة الاجتماعية في فترة حكمه بالرغم من قصرها، وقد ضرب أروع الأمثلة في بناء العدالة الاجتماعية وتطبيقها، وخاض نضالاً قوياً من أجل إرساء مبادئ العدل والعدالة، وإنهاء الظلم والجور الاجتماعي
س6/ هل بالضرورة أن يتحقق العدل دون قناعة عامة من قبل الناس ؟
ج6/ الناس بفطرتهم يرغبون في العدل والعدالة، ولا يضيق بها إلا من يمارس الظلم أو يستفيد منه، ثم إن للحاكم دوراً مهماً في نشر ثقافة العدالة بين الناس، فالعدالة تحتاج إلى ثقافة وسلوك، والاجتماع البشري لا يمكن أن ينعم بروح العدل والنظام والتقدم إلا بتحقيق العدالة الاجتماعية.
س7/ برأيكم ماذا يحدث إذا ما تضاربت قوانين العدالة الاجتماعية مع القوانين القضائية السياسية !؟
ج7/ يحدث اختلال في النظام العام، وبسط الظلم والجور بين الناس، وإذا أردنا تطبيق العدالة الاجتماعية فإن ما نحتاجه هو سن قوانين قائمة على العدل في كل مناحي النظام العام، ومنه القضاء، والسياسة، والاقتصاد، بل إن هذه الأبعاد أركان مهمة في تشييد صرح العدالة الاجتماعية.
وليس من المتصور أو المنطقي بناء عدالة اجتماعية في ظل سلطة قضائية غير عادلة، فالقضاء يفترض فيه أن يكون ميزان العدل، يقول تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾.
س8/ تفتقر المجتمعات العربية للحد الأدنى من القوانين - الاجتماعية أو السياسية - إلى أي مدى ينعكس ذلك في تطبيق العدالة من عدمها !؟
ج8/ إن افتقار أي مجتمع إلى الحد الأدنى من القوانين الاجتماعية أو السياسية الضابطة للنظام العام يؤدي إلى غياب العدالة، فلا يمكن تصور قيام عدالة اجتماعية في ظل غياب القوانين المنظمة للاجتماع السياسي والاجتماعي، لذلك فإن الخطوة الأولى نحو أي بناء حقيقي للعدالة الاجتماعية يتطلب سن قوانين تنظم الحريات العامة، وتحمي حقوق الإنسان، وتوضح واجبات كل مواطن بدون لبس أو التباس، وتفتح المجال نحو المحاسبة والمراقبة التي تحمي الأموال العامة، وتتيح تكافؤ الفرص أمام الجميع.
س9/ هل بالضرورة إذا ما أردنا أن يرفل المجتمع بالعدالة على الفرد أن يتخلى عن حقوقه الطبيعية !؟
ج9/ لا يمكن أن يرفل المجتمع - أي مجتمع - بالعدالة إلا إذا حصل كل فرد على حقوقه الطبيعية، فالتلازم في السؤال معكوس، والصحيح إن التلازم موجود ما بين تمتع المجتمع بالعدالة، وحصول كل فرد منه على حقوقه المشروعة.
س10/ ما أهمية تحقيق هذا المفهوم - العدالة - في المجتمع ؟
ج10/ أهمية كبيرة جداً، فبالعدالة يعيش الجميع بأمن وسلام، كما أن التقدم والتطور متلازم مع وجود العدالة، وكلما تحققت العدالة ازداد إيمان الناس وقناعتهم بالعمل المخلص والجاد في سبيل تطوير المجتمع، كما أن العدالة تساهم في خلق التنافس الإيجابي، وتخلق الحافز القوي نحو تفجير المواهب والطاقات، مما يؤدي إلى الإبداع والابتكار. ثم أن المجتمع يشعر بالسعادة والرفاهية والراحة.
س11/ ما هي أبرز المعوقات التي تحول دون تحقيق العدالة الاجتماعية في المجتمعات العربية والإسلامية بالتحديد!؟
ج11/ المعوقات كثيرة، من أبرزها: الابتعاد عن قيم الدين ورؤيته عن العدل، وغياب الديموقراطية الحقيقية، وانتشار الفساد المالي والسياسي، وسيطرة الدكتاتورية والاستبداد، والتخلي عن قيم الحرية والمساواة واحترام الإنسان... وغيرها من العوائق التي تحول دون تحقيق العدالة الاجتماعية، وإذا ما أردنا الوصول إلى تطبيق العدالة فعلينا جميعاً العمل على تجاوز تلك المعوقات، والعودة إلى روح الإسلام وتعليماته، ونشر ثقافة الحرية والمساواة والعدل والشورى.
س12/ كيف تناولت النظريات كالرأسمالية أو الماركسية وغيرها هذا المفهوم معرفيًّا وتطبيقيًا ؟
ج12/ من الصعب جدا تناول نظريات في العدالة الاجتماعية للرأسمالية أوالماركسية في حوار كهذا، لأن مثل ذلك يحتاج لمزيد بيان، وكثير من الشرح والإيضاح، لكن ما يمكن قوله هنا:
إن أي نظرية لا تخلو من جوانب إيجابية لكن العبرة في النهاية بمجموع تلك النظرية وقدرتها على تحقيق العدالة الاجتماعية من عدمها، ومستوى الخلل والاعتلال الذي تعاني منه تلك النظرية، وما يمكن أن تولد من أضرار اجتماعية إذا ما طبقت على أرض الواقع.
فالرأسمالية لها مفهومها للعدالة الاجتماعية، وهو قائم على نشر الحريات من دون ضوابط، مما أدى إلى نشوء طبقية سياسية، واقتصادية، مما شجع على انتشار الاحتكار والجشع، وتقديس المال لأنه الطريق إلى تقديس الفرد الرأسمالي، في حين لا توفر الرأسمالية أي رعاية أو اهتمام بالفرد الفقير و الضعيف. ويكفي أن نقرأ ما كتبه (جون والفين) في كتابه: (الإصرار على انعدام العدالة الاجتماعية) حيث انتقد فيه مفهوم الرأسمالية للعدالة الاجتماعية، معتبراً أن الرأسمالية تنظر إلى الفقراء كمجرمين بحق المجتمع، ولا يستحقون شيئاً من الرعاية الاجتماعية.
ومشكلة الرأسمالية أنها تفرز طبقية متنفذة تتحكم بمقاليد الاقتصاد والسياسة والإعلام والاجتماع، أما بقية أفراد المجتمع فهم مجرد أدوات وآلات لزيادة رأس المال الاقتصادي، وما رأيناه في الآونة الأخيرة من أزمة مالية خانقة في الغرب ليدلل على الثقوب التي يعاني منها النظام الرأسمالي، ونظرته لمفهوم العدالة.
أما نظرية الماركسية لمفهوم العدالة الاجتماعية فهو قائم على سلب الملكية الفردية، وتأميم كل مصادر الثروة ووسائل الإنتاج، وبرمجة كل شيء من قبل الدولة، وإلغاء الحريات الفردية. ولسنا بحاجة لبيان فساد هذه النظرية بعدما فشلت وانهارت حينما طبقت عنوة في الاتحاد السوفياتي ، وبالرغم من الإمكانيات الضخمة التي كان يتمتع بها، إلا أن هذه النظرية لم تستطع أن تحقق العدالة الاجتماعية، بل نشرت الظلم والجور، وصادرت ممتلكات الناس وحقوقهم، ومن الطبيعي أن تسقط تلك النظرية لأنها تتناقض مع فطرة الإنسان وطبيعته الإنسانية.
وهناك نظريات أخرى في العدالة الاجتماعية كالنظرية التلفيقية والتي تجمع بين النظرية الماركسية والنظرية التوفيقية، وكنظرية ( ماكس فيبر ) كرد على نظرية كارل ماركس في الصراع الطبقي، وهذه النظريات وغيرها مليئة بالعيوب والثغرات والخلل، والحل في نظرنا هو العودة إلى مفهوم الإسلام للعدالة الاجتماعية، وتطبيقه عملياً، فالخالق هو الأعلم بحاجات المخلوق، كما أن نظرية العدالة الاجتماعية بالمفهوم الإسلامي ترتكز على مقومات صلبة كالمساواة بين الناس، وتداول الأموال بالحق، وبسط الحريات العامة، واحترام حقوق الناس، وحرمة الظلم والتعدي والتجاوز، ووجوب نشر العدل والقسط بين الناس.
ـــــــــــــ
ملاحظة: يمكنكم قراءة نص الحوار من موقع مركز آفاق للدراسات والبحوث على الرابط التالي:
http://www.aafaqcenter.com/index.php/post/263