معالم النهضة الفكرية للإمام الشيرازي
الشيخ عبدالله اليوسف - 13 / 8 / 2013م - 8:29 ص

 

مفتتح تمهيدي
                                          

يُعد العامل الفكري والثقافي من العوامل المؤثرة في بناء وتغيير المجتمعات الإنسانية، إذ أن أي تغيير اجتماعي لا بد وأن يسبقه تغيير في الأفكار والثقافة السائدة، والأفكار الحية والقوية والمتجددة هي القادرة على صناعة التغيير الاجتماعي، ورسم مسار واتجاه المجتمع، ولذلك نلحظ أن كل التغييرات التي تحدث في المجتمعات الإنسانية المختلفة يسبقها عادة نهضة فكرية وحراك ثقافي قوي باتجاه إحداث تغيير حقيقي في القناعات والاتجاهات الفكرية والثقافية، يقول تعالى: ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ    فالتغيير  الداخلي مقدمة ضرورية لأي تغيير خارجي كما تشير الآية الكريمة.

وبناء على هذه الحقيقة الاجتماعية يدرك القادة والمصلحون أهمية إحداث حراك ثقافي، لإحداث أي تغيير اجتماعي إيجابي يخدم تطور وتقدم المجتمع.

والمجتمعات في مسارها وحركتها تمر بمراحل مختلفة، ومنعطفات جوهرية في حركتها الفكرية والثقافية، فتارة نجد تموجات فكرية قوية تهب على المجتمع، وتارة أخرى نراها تصاب بجزر وركود وانكماش فكري، بما يؤدي إلى حدوث نوع من الرتابة الثقافية، وجمود في الأفكار والقناعات.

والمجتمعات الحية هي المجتمعات التي تعيش دائماً أو غالباً في حراك فكري وثقافي، بما يؤدي إلى المزيد من بناء النضج العقلي والوعي الثقافي للمجتمع. ، والحراك الفكري والثقافي لا يمكن أن ينمو في أي مجتمع إلا إذا كان وراءه العديد من الحواضن والمحركات المؤثرة.

الإمام الشيرازي
الإمام السيد محمد الشيرازي ( 1347- 1422هـ)

وعادة ما ينشغل القادة المصلحون بتطوير المجتمع، وإحداث تغيير إيجابي في حركته ومساره، بعيداً عن الجمود والركود والخمول الفكري الذي قد تصاب به بعض المجتمعات، ولأسباب مختلفة.

ومن هؤلاء القادة والرواد الذين حملوا راية التغيير الاجتماعي، هو الإمام الشيرازي الذي شَخَّصَ الواقع، وعمل على إحداث تغيير اجتماعي، ورأى أن هذا التغيير لا يمكن أن يحدث إلا بإيجاد نهضة فكرية متكاملة بحيث تكون قادرة على النهوض بالمسلمين، وتغيير الواقع السلبي للمجتمعات المسلمة إلى واقع إيجابي وفاعل.

ولذلك عندما نتصفح ما كتبه السيد الشيرازي، ونستمع لمحاضراته سنجد أنه مارس نقداً للواقع السلبي الذي يعيشه المسلمون في كل مكان، ومن جهة أخرى كان يدعو دائماً للعمل بالإسلام، والعودة إلى قيمه ومفاهيمه وأحكامه.

ومن أجل تحقيق ذلك، عمل بجد وإخلاص على إيجاد نهضة فكرية وثقافية في المجتمع، فلم يكن الإمام الشيرازي مجرد مرجع للتقليد وحسب، بل كان مؤسس لمدرسة فكرية متميزة، ورائد لمشروع فكري مستنير

ملامح النهضة الفكرية للإمام الشيرازي

لكل صاحب مشروع فكري، أو مؤسس لمدرسة فكرية معالم توضح أبعاد ذلك المشروع، وملامح لتلك النهضة الفكرية، ولتسليط الأضواء أكثر على ما قام به الإمام الشيرازي من نهضة فكرية قوية ومتميزة، نشير إلى أبرز وأهم معالم تلك النهضة الفكرية في النقاط التالية:

1 ـ التركيز على القضايا الكبرى:

أكَّد الإمام الشيرازي في نهضته الفكرية على القضايا الكبرى للأمة، وكان لديه أهداف كبرى يسعى لتحقيقها، وهذه الأهداف تشير إلى مستوى الطموح والثقة بالنفس التي كان يتمتع بها الشيرازي.

وأي دراسة متعمقة لما أنتجه الإمام الشيرازي من كتب ومؤلفات سنجد أن تركيزه كان منصباً على النهوض بالأمة، وإحياء حضارتها، وكان همه الأكبر استعادة الإسلام إلى الحياة، وتوحيد الأمة الإسلامية في كيان واحد.

وكل ما قدمه الإمام الشيرازي من أطروحات فكرية وثقافية تصب بأجمعها في سبيل الوصول لذلك، فالوحدة الإسلامية، ونشر الحريات، والأخوة الإسلامية، والتوعية الثقافية... وغيرها من الأفكار التي كان يركز عليها كانت تهدف كلها إلى استعادة الإسلام إلى الحياة، والنهوض الحضاري بالأمة، والقدرة على المنافسة الحضارية مع المجتمعات المتقدمة الأخرى.

وهذا المشروع الفكري الذي بناه وأسسه السيد الشيرازي يجب الحفاظ عليه، وذلك من خلال التركيز على القضايا الكبرى للأمة، وعدم النزول إلى أهداف صغيرة، أو اختزال فكر الإمام الشيرازي في قضايا صغيرة، أو مسائل خلافية تضر في النهاية بالأهداف الكبيرة.

 2 ـ تحديث المفاهيم الدينية:

من معالم النهضة الفكرية للإمام الشيرازي هو تحديثه لبعض المفاهيم الدينية، وتفسيرها بطريقة جديدة، إذ كانت بعض المفاهيم الدينية ـ ونتيجة لعقود التخلف الذي أصاب الأمة ـ قد أصابها خلل في البناء المعرفي لها، فجاء الإمام الشيرازي ليعطي آراء جديدة حول بعض المفاهيم الدينية، أو ليعيد صياغة بعضها بما يتناسب وجذورها الأصلية.

ومن هذه المفاهيم الدينية، مفهوم المسجد، إذ كان يرى الإمام الشيرازي أن المسجد ليس للصلاة فقط، وإنما أيضاً للإرشاد والتوجيه والتوعية الدينية.

ومثال آخر: مفهوم العبادة، إذ كان يرى الإمام الشيرازي أن كل عمل فيه رضا لله عز وجل فهو عبادة، فالتفكير والتفكر عبادة، وكسب الرزق الحلال عبادة، وخدمة الناس عبادة، وبناء المؤسسات الهادفة عبادة... وهلم جرا.

وهكذا، اتسعت دائرة تحديث المفاهيم الدينية لتشمل قائمة طويلة من المفاهيم: كمفهوم التشيع، ومفهوم عاشوراء، ومفهوم عالم الدين، ومفهوم الحوزة، ومفهوم الزهد، ومفهوم العمل... وغير ذلك كثير.

3 ـ التأصيل للقضايا الجديدة:

من أهم الأمور في أي نهضة فكرية تستمد جذورها من الرؤية الدينية هو التأصيل الشرعي للقضايا الجديدة، وهذا التأصيل مهم جداً في صياغة أي مشروع فكري مرتكز على الرؤية الإسلامية.

وقد اهتم الإمام الشيرازي بإعطاء رؤية شرعية تجاه المستجدات والقضايا الجديدة، فموسوعته الفقهية لم تقتصر على الأبواب المتعارف عليها في الفقه والتي تبدأ من باب ( الاجتهاد والتقليد ) وتنتهي بباب ( الديات )، بل أضاف لذلك العديد من الأبواب الجديدة: كالإدارة والاقتصاد والاجتماع والحقوق والقانون والبيئة والسياسة والإعلام والمرور والنظافة والتاريخ... وغيرها من المواضيع التي عمل على تأصيلها فقهياً؛ وهو الأمر الذي يكشف عن إبداعه الفقهي، وعقليته المفكرة، وذهنيته الوقادة، وعلمه الغزير.

ولم يقتصر الإمام الشيرازي على التأصيل الشرعي للقضايا الجديدة، بل نلحظ فيها إعطاء رؤية واضحة للمنهج العام الذي يتبناه الإمام الشيرازي في نهضته الفكرية، وهو ربط تلك القضايا الجديدة برأي الإسلام، وواقع المسلمين، وأهمية العمل نحو التغيير البناء.

4 ـ التصدي للتيارات الفكرية المنحرفة:

تمر المجتمعات في مسيرتها التاريخية بتيارات فكرية متعددة، بعضها يدخل في الدائرة الإسلامية ولكن باختلاف في المنهج والرؤية... وهذا شيء مطلوب ومفيد، وبعضها الآخر يحمل مشروعاً فكرياً مناقضاً لفكر الإٍسلام وثقافته؛ وهذا أمر يجب التصدي له، وبيان عيوبه وسلبياته وأخطاره على المجتمع المسلم.

وفي عقد الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي اجتاح العالم الإسلامي مجموعة من التيارات الفكرية المنحرفة كالتيارات الشيوعية الملحدة، وتيارات القومية العربية بالمعنى السلبي لها، وقد استطاعت هذه التيارات التأثير على بعض المجتمعات المسلمة، وكسب شريحة مهمة من جيل الشباب.

وقد شعر المراجع والعلماء بخطر تلك التيارات على المجتمعات المسلمة، وقد تصدى المراجع الكبار لهذه التيارات المنحرفة، ومن ضمنهم الإمام الشيرازي الذي لم يكتف بإصدار الفتاوى ضدها، بل ناقش أفكارهم ونظرياتهم في العديد من مؤلفاته القيمة ككتاب ( مباحثات مع الشيوعيين ) وغيره من الكتب التي تصدى فيها للفكر الشيوعي، وكذلك كتب ضد الأفكار القومية المناقضة للفكر الإسلامي.

وعندما بزغت الرأسمالية وانتشر تأثيرها إلى المجتمعات المسلمة كتب الإمام الشيرازي مجموعة من المؤلفات في نقد الرأسمالية، وبيان عيوبها وثغراتها، ونقاط ضعفها.

وهكذا، عندما ندقق في بيبلوغرافيا مؤلفات الإمام الشيرازي فسنرى في كل فترة زمنية كان يركز الإمام الشيرازي فيها على موضوع معين طبقاً للمتغيرات الثقافية والفكرية التي تواجه المجتمعات المسلمة.

5 ـ التشجيع على النشاط والعمل الثقافي:

تميز الإمام الشيرازي بالحث والتشجيع على ممارسة مختلف الأنشطة والمناشط الاجتماعية والثقافية، فمن يقرأ كتبه سيجد فيها الكثير من أدبيات العمل الثقافي   والإسلامي وما يتفرع منه من فاعلية وعطاء ونشاط وحيوية واجتهاد وجد وإخلاص.

الإمام الشيرازي
الإمام السيد محمد الشيرازي ( 1347- 1422هـ)

ولم يكتفِ الإمام الشيرازي بالتنظير للعمل والنشاط، بل كان هو القدوة والأسوة في ذلك، فهو مثال للفقيه العامل، وهو كتلة من النشاط، وطاقة من الحيوية والعطاء الذي لا ينقطع.

وكان يحث كل من يزوره أو يلتقي به على تأسيس هيئات ثقافية، أو مؤسسات اجتماعية، أو لجان لقضاء حاجات الناس... وكان لتوجيهاته وإرشاداته الأثر الكبير في تأسيس مئات المشاريع والمؤسسات في مختلف المجالات الثقافية والإعلامية والاجتماعية.

وبذلك أصبح السيد الشيرازي رمزاً للعمل والنشاط والفاعلية، ومثالاً يحتذى به في كثافة العمل والإنتاج والنشاط.

6 ـ الثقافة للجميع:

الثقافة لجميع الشرائح الاجتماعية، والتوعية الثقافية يجب أن تشمل الجميع... شعار رفعه السيد الشيرازي بنفسه، وطبقه عملياً، فقد كتب لجميع الفئات والمستويات الاجتماعية، فكما كتب للنخبة كتباً تخصصية في الفقه والأصول، كتب لغيرهم أيضاً، وكما كتب للفئات المثقفة كتب للناشئين من الجيل الجديد، وكما خاطب الرجال خاطب النساء أيضاً.

وكان مكتبه مكاناً لتوزيع الكتب مجاناً على الزائرين، فكل من كان يزوره لا يخرج إلا وبيديه بعض الكتب المهداة إليه من المرجع الشيرازي، بل وكان يشجع تلامذته وأتباعه على توزيع الكتب بكثافة على الجميع.

وترتكز فلسفة الإمام الشيرازي في ذلك على أنه يجب إيصال الثقافة والفكر إلى كل الناس، فالتغيير الجوهري يبدأ من التغيير الثقافي التي هي مقدمة لأي تغيير اجتماعي عميق وحقيقي.

وكان يدعو ( رحمه الله) إلى ترجمة الكتاب الإسلامي بمختلف اللغات الحية، وإيصالها إلى كل شعوب العالم، وكان يحث الجميع على الكتابة والخطابة؛ لأنهما من أهم الوسائل في نشر الثقافة والفكر بين الناس.

وقد كان لهذا التوجيه والإرشاد الذي مارسه الإمام الشيرازي بين أتباعه وتلامذته ومريديه أثره الفاعل، حيث كان لمدرسته قصب السبق في إيجاد تموجات فكرية وثقافية في المجتمع، ولا تزال آثار تلك التموجات الثقافية موجودة وملموسة؛ بل يمكن القول ـ وباعتراف الكثير من المنصفين ـ أن مدرسة الإمام الشيرازي هي أنشط جماعة في المجال الفكري والثقافي، وخصوصاً في منطقة الخليج... وذلك بفضل جهود الإمام الشيرازي، وحثه المتواصل على ذلك.  
      

اضف هذا الموضوع الى: