سماحة الشيخ عبدالله اليوسف أثناء إلقاء الخطبة
|
تحدث سماحة الشيخ الدكتور عبدالله أحمد اليوسف في خطبة الجمعة 20 جمادى الآخر 1439هـ الموافق 9 مارس 2018م عن أهمية التحلي بصفة الرحمة والتراحم بين الناس، لأنها من القيم الأخلاقية الفضلى التي حَثَّ عليها الإسلام، وأمر أتباعه بالتحلي بها، والعمل بمقتضاها؛ لما لها من فوائد كبرى في بناء الاجتماع الإنساني.
وأضاف قائلاً: أكدت النصوص الدينية على أهمية التحلي بصفة الرحمة والتراحم بين المؤمنين، وتجنب القسوة والغلظة والفظاظة في التعامل مع الآخرين.
فقد روي عن رسول الله قوله: «الراحِمونَ يَرحَمُهُم الرّحمنُ تباركَ وتعالى، ارحَمُوا مَن في الأرضِ يَرحَمْكُم مَن في السماءِ»، وقوله : «إنّ اللَّهَ رَحيمٌ يُحِبُّ الرَّحيمَ، يَضَعُ رحمَتَهُ على كُلِّ رحيمٍ»، وقوله : «إنّما يَرحَمُ اللَّهُ مِن عِبادِهِ الرُّحَماءَ»، وقال الإمامُ عليٌّ : «أحسِنْ يُحسَنْ إلَيكَ ...، إرحَمْ تُرحَمْ».
وقال سماحته: لأن صفة الرحمة من الصفات الأخلاقية الرفيعة، وهي دليل على صفاء القلب وطهارته ونظافته؛ فعلى المؤمن أن يكون رحيماً بنفسه أولاً، ورحيماً بأهله، ورحيماً بأصدقائه، ورحيماً بجيرانه، ورحيماً بأبناء مجتمعه، بل ورحيماً حتى بأعدائه!
ودعا سماحته إلى أن يرحم الناس بعضهم بعضاً، وأن يعطف بعضهم على بعض، وأن يشفق بعضهم على بعض، وليس أن يتعاملوا مع بعضهم بقسوة وغلظة وفظاظة لأنه خلاف التعاليم الدينية، والفطرة السليمة، ومنطق العقل.
وأشار سماحة الشيخ اليوسف إلى أن من الصفات البارزة في شخصية السيدة فاطمة الزهراء صفة الرحمة والعطف والشفقة والرأفة، فقد كانت في غاية الرحمة والعطف، وفي منتهى الشفقة والرأفة.
واعتبر أن المرأة بطبيعتها الأنثوية هي ينبوع الرحمة والعطف والرأفة والحنان، فكيف إذا كانت هذه المرأة هي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين؟!
وأشار إلى أن السيدة الزهراء قد سارت بسيرة أبيها رسول الله الذي كان يتميز بعظيم الرحمة، حيث كانت الرحمة صفة من صفاته ، وسمة من سماته البارزة، وعلامة من علاماته الفارقة؛ فقد جسّد قيمة الرحمة في جميع أبعاد حياته، قولاً وفعلاً، فهو المبعوث رحمة للعالمين ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾، وهكذا نهجت بضعته السيدة فاطمة الزهراء نفس النهج.
وتحدث الشيخ اليوسف عن معالم الرحمة في سيرة السيدة فاطمة الزهراء في عدة مواقف مهمة: كالرحمة بأبيها رسول الله ، والرحمة بزوجها أمير المؤمنين ، والرحمة بالفقراء والمساكين، والرحمة بجيرانها، مع ذكر مجموعة من الأمثلة والنماذج على ذلك.
وقال: كانت السيدة الزهراء تفيض رحمة وعطفاً ورأفة وحناناً بأبيها رسول الله حتى كنّاها بـ (أم ابيها) وذلك لكثرة رحمتها وعطفها وحنوها عليه ، وكان كثيراً ما يردد: (فداكِ أبي وأمي).
وتابع: هذه الكنية تدل أيضاً على أن السيدة الزهراء قامت بدور الأم في العناية بأبيها والاهتمام بشؤونه والرأفة به، والعطف عليه، ولذلك كان الرسول الأكرم يعاملها معاملة الأم أيضاً؛ فيقوم لها ويقبل يدها ويجلسها مجلسه، كما كانت تفعل هي معه نفس الصنيع.
وأضاف: وفي هذا درس عظيم نتعلمه من سيرة السيدة فاطمة الزهراء في الرحمة بالآباء والأمهات، وخصوصاً في فترة الشيخوخة المتأخرة حيث يكونون بأمس الحاجة إلى العناية والرعاية، وإظهار مظاهر الرحمة والعطف والحنان لهم، وتفقد أحوالهم، والقيام بما يحتاجون إليه من مهمات وخدمات ورعاية واهتمام.
ثم تطرق سماحة الشيخ اليوسف إلى عناية الزهراء بزوجها أمير المؤمنين ، ورحمتها به، والاهتمام بشؤونه، والعطف عليه.
واعتبر أن من صفات المرأة الصالحة، المعاشرة الحسنة، وطيب المعاملة، وأن من مظاهر الرحمة في الحياة الزوجية أن تراعي الزوجة ظروف زوجها المالية، وقدراته المادية، وعدم إجباره على شراء أشياء كمالية بما لا يتناسب مع وضعه المادي لأن ذلك قد يجبره على الاقتراض وتحمل أعباء الديون الثقيلة.
وقال: كانت السيدة الزهراء لا تكلف زوجها شيئاً، ولا تطلب منه أي شيء، وعندما يعلم أمير المؤمنين بعدم وجود طعام في البيت يقول لها: يا فاطمة ألا كنت أعلمتني فأبغيكم شيئاً؟
فتقول : «يا أبا الحسن إني لأستحي من إلهي أن تكلف نفسك ما لا تقدر عليه».
ولفت إلى أن في هذا درساً آخر من دروس الرحمة الفاطمية وهو تفهم ظروف الزوج، وعدم الضغط عليه، ومراعاة ظروفه المادية، والرحمة به، وعدم تكليفه بما لا يطاق.
واستطرد بالقول: نعم يستجب للزوج إذا كان مقتدراً أن يوسع على عياله، وأن لا يبخل عليهم بشيء، فقد روي عن ن معمر بن خلاد، عن أبي الحسن قال: «ينبغي للرجل أن يوسع على عياله لئلا يتمنوا موته وتلا هذه الآية: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ﴾، قال: الأسير عيال الرجل ينبغي إذا زيد في النعمة أن يزيد أسراءه في السعة عليهم»، وعن أبي حمزة، عن علي بن الحسين ( عليهما السلام ) قال: «أرضاكم عند الله أسبغكم على عياله»، وعن ابن أبي نصر، عن الرضا ( عليه السلام )، قال: قال: «صاحب النعمة يجب عليه التوسعة على عياله».
ثم تحدث سماحة الشيخ عبدالله اليوسف عن معلم آخر من معالم الرحمة عند السيدة الزهراء ، حيث كانت رحيمة بالفقراء والمساكين والضعفاء والعجزة، فكانت تتبرع بأجود ما لديها إليهم، وعندما لا يوجد عندها ما تنفقه عليهم تتبرع ولو بطعامها وطعام أولادها وزوجها؛ إذ كانت من المعنيين - مع زوجها وولديها - بقوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴿76/8﴾ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا﴾.
وتابع: ما كانت السيدة الزهراء ترد سائلاً يسأل، أو طارقاً يطرق باب بيتها؛ بل تتبرع إليه بما تستطيع، حيث سجلت لنا كتب التاريخ نماذج مشرقة من سيرة السيدة الزهراء في البر بالفقراء والمساكين، وقد أعطت أروع صور العطاء والإنفاق والبذل والبر بالمحتاجين، عندما تصدقت بثوب زفافها ليلة عرسها لفتاة فقيرة من الأنصار!
وفي إحدى المرات عندما جاء إليها فقير يطلب منها المساعدة ولم تجد لديها ما تعطيه من مال، نزعت عقدها وأعطته إياه وقالت له: بعه وأشترِ به ما تحتاج إليه.
وأشار سماحته إلى أن من تجليات الرحمة عند السيدة فاطمة الزهراء أيضاً أنها كانت تتفقد شؤون جيرانها وتساعد من يحتاج منهم إلى المساعدة أو قضاء حاجة أو تسهيل أمر من أمور الحياة.
وأضاف: يذكر لنا التاريخ صوراً رائعة من اهتمام السيدة الزهراء بجيرانها، إذ كانت تطحن الحب من الحنطة والشعير لفقراء جيرانها الذين يعجزون عن الطحن، كما كانت تستقي الماء بقربة فتحمله لضعفاء جيرانها من الذين لا يتمكنون من جلب الماء بأنفسهم.
وقال: وفي هذا درس آخر من سيرة السيدة الزهراء في الاهتمام بالجيران، والعطف عليهم، والبر بهم، وتفقد أحوالهم، والرحمة بهم والعطف عليهم مادياً ومعنوياً، فعلينا العناية بجيراننا، وتفقد أحوالهم، ومشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم اقتداء بما كانت تفعله الزهراء .
وحذر من إيذاء الجار أو مضايقته أو إزعاجه أو إلحاق الضرر به فكلها أمور منهي عنها، ويصل بعضها إلى درجة التحريم.
وختم سماحة الشيخ اليوسف خطبته بالقول: ونحن إذ نستذكر سيرة سيدة النساء الصديقة الزهراء علينا أن نأخذ منها درساً في الرحمة والتراحم، والعطف والتعاطف، فنرحم بعضنا البعض، ونعطف على بعضنا البعض.
وقال: إذا ما أراد الإنسان أن يرحمه الله تعالى فعليه أن يرحم خلق الله، فقد قال الإمام علي : «أبلَغُ ما تَستَدِرُّ بهِ الرحمَةَ أن تُضمِرَ لِجَميعِ الناسِ الرحمَةَ».
وجاء رجل إلى رسول الله وقال له: أُحِبُّ أن يَرحَمَني رَبّي.
فقال رسول الله : « ارحَمْ نَفسَكَ، وارحَمْ خَلقَ اللَّهِ يَرحَمْكَ اللَّهُ».
أما عدم الرحمة بالناس فيمنع نزول الرحمة الإلهية، فقد قال الإمام علي : «مَن لم يَرحَمِ الناسَ مَنَعَهُ اللَّهُ رحمَتَهُ».