تعد القراءة من أهم الوسائل للارتقاء العقلي، والإثراء العلمي والفكري والمعرفي، والاطلاع على أفكار وآراء وتجارب ومنجزات العقل البشري عبر التاريخ.
والقراءة تضيء العقل، وتطور الشخصية، وتثري الفكر، وتحفز التفكير، وتصقل المواهب، وتنمي القدرات، وتقوي الثقة بالنفس، وتوسع الأفق، وتجدد الأفكار، وتغير القناعات، وتزيد من المخزون العلمي عند الإنسان.
وقد عرف الإنسان القراءة منذ القدم، وهي تعتبر الفاصلة بين عصر ما قبل التاريخ، وعصر التاريخ، حيث بدأ تدوين (عصر التاريخ) باستعمال الإنسان الكتابة وممارسة القراءة، ومن هنا فتاريخ الإنسانية مقرون بتاريخ ظهور القلم والخط، وتعلم القراءة والكتابة.
ومن المعروف أن اختراع الكتابة قد ظهر في العالم العربي، وبالتحديد في بلاد ما بين النهرين، وأن أولى المكتبات في التاريخ ظهرت في العالم العربي أيضاً، خصوصاً في بلاد وادي النيل كما تشير لذلك الدراسات التاريخية والحفريات الأثرية، إلا أن التراجع الحضاري الذي أصاب الأمة الإسلامية قد أثّر على كل مناحي الحياة، ومنه الحياة العلمية والثقافية والفكرية والمعرفية.
وقد أولى الإسلام عناية خاصة بالقراءة، فأول آية نزلت في القرآن الكريم كانت كلمة ﴿اقْرَأْ﴾ في قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿96/1﴾ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿96/2﴾ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿96/3﴾ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿96/4﴾ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾[1] ، وفي هذه الآيات الشريفة دلالة عميقة وإشارة كبيرة إلى أهمية القراءة في الارتقاء بالإنسان والمجتمع، وصناعة التقدم العلمي والحضاري للأمة.
قال الشهيد الثاني (رضوان اللَّه عليه) في كتابه «مُنية المريد»:
«اعلمْ أنّ اللَّه سبحانه جعل العلم هو السبب الكلّيّ لخلق هذا العالم العُلويّ والسُّفليّ طُرّاً، وكفى بذلك جلالةً وفخراً، قال اللَّه تعالى في محكم الكتاب- تذكرةً وتبصرةً لُاولي الألباب-: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً»﴾[2] ، وكفى بهذه الآية دليلًا على شرف العلم، لاسيّما علم التوحيد الذي هو أساس كلّ علم ومدار كلّ معرفة.
وجعل سبحانه العلم أعلى شرف وأوّل مِنّة امتنّ بها على ابن آدم بعد خلقه وإبرازه من ظلمة العدم إلى ضياء الوجود، فقال سبحانه في أوّل سورةٍ أنزلها على نبيّه محمّد صلى الله عليه وآله: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿96/1﴾ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿96/2﴾ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿96/3﴾ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿96/4﴾ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾[3] ، فتأمّل كيف افتتح كتابه الكريم المجيد الذي ﴿لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾[4] بنعمة الإيجاد، ثمّ أردفها بنعمة العلم، فلو كان ثَمّة مِنّة أو توجد نعمة بعد نعمة الإيجاد هي أعلى من العلم لَما خصّه اللَّه تعالى بذلك»[5] .
وهذا يدل دلالة واضحة على أن الإسلام يولي القراءة والكتابة، واكتساب العلم أهمية كبيرة، لأنه الأساس في كسب الدنيا وربح الآخرة، يقول أمير المؤمنين : «اكتَسِبوا العِلمَ يُكسِبْكُمُ الحَياةَ»[6] ، وعنه قال: «العِلمُ حَياةٌ»[7] .
وعلى الإنسان الواعي أن يقرأ وألا ينقطع عنها إذا ما أراد كسب الحياة والنجاح والتميز والإبداع، خصوصاً وأن الحصول على أي كتاب في هذا العصر بات أمراً سهلاً للغاية، ففي حين كان العالم والباحث عن الكتاب سابقاً يقطع الفيافي ويخاطر بحياته لمشقة السفر على الدواب ويتحمل المشاق والصعوبات الكثيرة من أجل الحصول على كتاب، أصبح الحصول على أي كتاب في زماننا أمراً في غاية السهولة واليسر، بل ويمكنه حيازة آلاف الكتب بضغطة زر في هاتفه أو حاسوبه الشخصي، أو زيارة المكتبات ومعارض الكتاب للحصول على الكتاب الورقي، وما على الإنسان إلا أن يقرأ ويطالع ما يشتهي من كتب ومصنفات.
كان رسول الله يدعو إلى تعليم المسلمين الكتابة والقراءة، فقد اعتبر أن العلم هو أساس كل خير، فقد روي عنه أنه قال: «العِلمُ رَأسُ الخَيرِ كُلِّهِ، والجَهلُ رَأسُ الشَّرِّ كُلِّهِ»[8] ، وقال الإمامُ عليٌّ : «العِلمُ أصلُ كُلِّ خَيرٍ، الجَهلُ أصلُ كُلِّ شَرٍّ»[9] .
واعتبر رسول الله أن قراءة القرآن ترتقي بالإنسان في الدنيا والآخرة، فقد روي عنه أنه قال: «يقالُ لِصاحِبِ القرآنِ: اقرَأ وَارقَ ورَتِّلْ كما كنتَ تُرَتِّلُ في دارِ الدنيا، فإنّ مَنزِلَتَكَ عندَ آخِرِ آيَةٍ كُنتَ تَقرَؤها»[10] ، وعنه قال: «يقالُ لصاحِبِ القرآنِ إذا دَخَلَ الجَنّةَ: اقرَأْ وَاصعَدْ، فَيَقرَأُ ويَصعَدُ بكُلِّ آيَةٍ دَرَجةً حتّى يَقرَأَ آخِرَ شيءٍ مَعهُ مِنهُ»[11] .
وفي سيرته المباركة نجد هذا الموقف النبوي الذي يدل على اهتمامه بتعليم المسلمين القراءة، وهو موقف فداء الأسرى في بدر؛ فقد كان رسول الله يطلب من الأسرى الذين يرغبون في إطلاق سراحهم أن يقوموا مقابل ذلك بتعليم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة، وفي هذا دلالة قوية على عناية الرسول الأكرم بمسألة القراءة، لأن أية أمة لا يمكنها الارتقاء والتقدم والرقي من دون العلم والمعرفة.
وفي موقف آخر كان رسول الله يزوج الرجل على أن يكون مهر المرأة تعليمها سورة أو آية من القرآن الكريم، وفي هذا أيضاً دلالة أخرى على عنايته بالتعليم والقراءة.
ولهذا استطاع الرسول الأكرم أن ينتقل بأمة العرب من الجهل إلى العلم، ومن التخلف إلى التقدم، ومن الحضيض بين الأمم إلى الارتقاء العلمي والحضاري، وأن تكون الأمة الإسلامية في طليعة وصدارة تلك الأمم في فترة زمنية قصيرة.
وقد غرس رسول الله حب القراءة واكتساب العلوم والمعارف في قلوب وعقول المسلمين، وكان من ثمار ذلك تأسيس المكتبات الإسلامية التي أنشئت في التاريخ الإسلامي، وكانت من أعظم المكتبات وأكبرها ولقرون طويلة مثل: مكتبات بغداد، القاهرة، المدينة المنورة، دمشق، النجف، القدس، غرناطة، قرطبة، وغيرها من المكتبات الكبيرة والغنية بمختلف أنواع الكتب والمصنفات والموسوعات العلمية.
للقراءة الجادة والمنهجية والمركزة فوائد عديدة، نجملها في النقاط التالية:
1- مصدر للعلم والمعرفة:
تعد القراءة المنهجية أو التخصصية من المصادر المهمة لاكتساب العلوم والمعارف، فهي من أهم مصادر التعلم الإنساني وأوسعها في كسب مختلف العلوم ومعرفة الأفكار على تنوعها وتعدد مشاربها، ولذلك تشجع الدول المتقدمة على عادة القراءة، وحث الناس على المطالعة، وإيجاد البيئة المناسبة المشجعة لحب القراءة والمطالعة.
أما الإدمان على القراءة غير المنهجية كالقراءة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي والتطبيقات الحديثة كالواتساب فقد تعطي الإنسان بعض المعلومات والأفكار ولكنها عادة ما تكون مشتتة وغير منهجية وغير موضوعية، وغير رصينة علمياً بخلاف القراءة الجادة والواعية والمركزة.
ولأن القراءة المنهجية تعد مصدراً ومفتاحاً للعلم، لا غنى للباحث عن العلم والحقيقة من القراءة الجادة، وكلما قرأ المرء أكثر اكتسب من العلوم والمعارف والحقائق ما فيه إثراء وإغناء لفكره وثقافته، وزيادة لوعيه ونضجه العقلي.
2- تنمية الشخصية:
تساعد القراءة الواعية على تنمية شخصية الإنسان، وتطوير ذاته، كما أنها تزيد من النضج والرشد العقلي عنده، وتفيد في صقل طاقاته ومواهبه، وتزيد من مخزونه العلمي والفكري، وتؤدي إلى الاستفادة من خبراته الحياتية والعملية.
والإنسان القارئ يكون مثقفاً وواعياً، ولديه القدرة على التحاور مع الآخرين، والتثاقف معهم، والتناقش بثقة مع المثقفين والمفكرين؛ بخلاف الإنسان الذي لا يقرأ، أو يقرأ نادراً حيث يفتقر لمؤهلات القدرة على الحوار والنقاش والجدل.
3- فتح آفاق جديدة:
الإنسان دائم القراءة تنفتح أمامه الكثير من الآفاق الجديدة في العلوم والتجارب، والنظريات العلمية والثقافية والمعرفية.
فالإنسان الذي يقرأ يتنزه في عقول الآخرين، ويتجول بين أفكارهم وآرائهم ونظرياتهم، ويقرأ خلاصة ما كتبه أهل الرأي والعلم والفكر.
والإنسان الذي يطمح للإبداع والابتكار والاختراع عليه أن يقرأ الكثير من تجارب من سبقه، وأفكار من تقدمه من أهل العلم والتجربة؛ حتى يبدع ويبتكر ويخترع أشياء جديدة ومفيدة للبشرية.
ينقل عن أحوال مخترع التلفزيون واسمه (فيلو) (Philo ranz Worth) أنه قرأ كل ما في مكتبة المدرسة التي كان يدرس فيها عن الصوت والصورة والسينما الصامتة، وكان همه أن يجمع الصوت والصورة معاً، فأخذ يقرأ ويقرأ كل ما وجد من كتب تخص الموضوع حتى توصل إلى اختراع التلفزيون.
فمن يروم الإبداع والابتكار عليه أن يقرأ في مجال تخصصه، ومحل اهتمامه حتى يبدع ويخترع أشياء جديدة تفيد البشرية.
4- مهارة الكتابة:
إن إتقان مهارة الكتابة والتأليف يحتاج إلى قراءة واسعة، فالقراءة الدائمة تساعد الإنسان الطامح لأن يكون كاتباً على الإبداع في الكتابة.
وإلا فإن من يقدم على الكتابة وهو لا يملك المحصّلة الثقافية الجيدة غالباً ما تكون كتابته سطحية ولا تحمل جديداً؛ لذلك يحتاج الكاتب ـ كي يكون مبدعاً ـ إلى نهمٍ في القراءة، كي يصقل موهبته الأدبية، ويثري مفرداته اللغوية، ويتزود بالكثير من المعلومات الجديدة والنافعة.
وقد قرأ العلامة الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني عشرة آلاف كتاب كي يتمكن من تأليف موسوعته القيمة المعروفة (موسوعة الغدير)، كما تفرغ للبحث والتأليف، ومن أجل إنجاز هذه المهمة الصعبة ترك درسه وبحثه للتفرغ التام للكتابة، كما كان يقرأ ويكتب في اليوم الواحد أكثر من 16 ساعة.
وذكر الشيخ محمد جواد مغنية في تجاربه أنه كان يعمل يومياً ما بين 14-18 ساعة، ولذلك أنتج الكثير من المؤلفات القيمة.
فلكي تكون كاتباً جيداً عليك أن تكون قارئاً نهماً، وإلا من دون القراءة لا يمكن لأي كاتب أن يكون مبدعاً.
5- الشعور بالمتعة والراحة:
تعطي القراءة شعوراً بالمتعة والراحة، وتساعد على الاسترخاء الذهني، وتخفيف التوتر وامتصاص الضغوط الحياتية، خصوصاً في قراءة الكتب الخفيفة الممتعة كقراءة القصص القصيرة الجميلة، أو قراءة الأشعار الغزلية والعاطفية، أو قراءة كتب الطرائف والنوادر والنكت، أو قراءة الكتب التي تتناغم مع ميول الشخص وتوجهاته النفسية والذاتية.
ومن جهة أخرى تمنع القراءة من الملل والسأم والنكد، وتساعد على ملء الفراغ، وتمنع الشعور بالعزلة والوحدة والاكتئاب والقلق، وفي نفس الوقت يكتسب القارئ فوائد أدبية وعلمية ومعرفية متنوعة.