تنبع الحاجة إلى الاعتدال والتوازن في جميع أمور الحياة، والابتعاد عن التشدد والتطرف؛ من أن الاعتدال قوة في الشخصية والعقل والفكر، والتشدد ضعف في العقل والفهم والإدراك والوعي.
ويدعو الدين الإسلامي أتباعه إلى التحلي بصفة الاعتدال، لأنه الطريق الوسط الذي يجنب الإنسان الوقوع بين طرفي الإفراط والتفريط، يقول الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾[1] .
وأما الإنسان المتطرف فهو شخص جاهل، وهو متطرف إما إلى طرف الإفراط أو إلى طرف التفريط، يقول الإمام علي عليه السلام: «لا تَرى الجاهِلَ إلّا مُفْرِطاً أو مُفَرِّطاً»[2] ، وعنه عليه السلام قال: «الجاهِلُ لَن يُلْفى أبداً إلّا مُفْرِطاً أو مُفَرِّطاً»[3] .
والفضيلة حالة اعتدال ووسط بين رذيلتين؛ فالشجاعة وسط بين التهور والجُبن، والكرم وسط بين الإسراف والتقتير، والتواضع وسط بين التكبر والضعة، وعلى ذلك قس بقية الفضائل.
والاعتدال كالخيط الدقيق يحتاج إلى ضبط الميزان حتى لا يطغى جانب على آخر، وفيه وبه تنتظم جواهر الفضائل والأخلاق الفاضلة.
لا يقتصر الاعتدال على جانب دون آخر، بل يشمل مختلف الأبعاد والجوانب، بحيث يكون المسلم متوازناً في حياته، ومعتدلاً في أعماله، وواعياً في أفكاره.
ونشير إلى جوانب مهمة من الاعتدال الذي ينبغي على كل إنسان أن يسير عليه في حياته كي يربح الدنيا ويفوز بالآخرة، وهي:
1- الاعتدال في العبادة:
الإتيان بالطاعات والعبادات أمر مطلوب ومحثوث عليه، وفيه أجر وثواب جزيل، ولكن في نفس الوقت ينهى الإسلام عن الرهبانية والانعزال التام عن الحياة بحجة الانشغال بالعبادة وطلب التزهد في الدنيا، إذ يجب أن يكون الإنسان معتدلاً حتى في عباداته حتى لا يقصر في القيام بواجباته الأخرى.
فقد روى الإمام الصادق عليه السلام: إنَّ ثَلاثَ نِسوَةٍ أتَينَ رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله، فَقالَت إحداهُنَّ: إنَّ زَوجي لا يَأكُلُ اللَّحمَ، وقالَتِ الأخرى: إنَّ زَوجي لا يَشَمُّ الطّيبَ، وقالَتِ الأخرى: إنَّ زَوجي لا يَقرَبُ النِّساءَ.
فَخَرَجَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله يَجُرُّ رِداءَهُ، حَتّى صَعِدَ المِنبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وأثنى عَلَيهِ، ثُمَّ قالَ: «ما بالُ أقوامٍ مِن أصحابي لا يَأكُلونَ اللَّحمَ، ولا يَشَمّونَ الطّيبَ، ولا يَأتونَ النِّساءَ؟! أما إنّي آكُلُ اللَّحمَ، وأشَمُّ الطّيبَ، وآتِي النِّساءَ، فَمَن رَغِبَ عَن سُنَّتي فَلَيسَ مِنّي»[4] .
وروى الإمام الصادق عليه السلام أيضاً فقال: جاءَتِ امرَأَةُ عُثمانَ بنِ مَظعونٍ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله فَقالَت: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ عُثمانَ يَصومُ النَّهارَ ويَقومُ اللَّيلَ!
فَخَرَجَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله مُغضَباً يَحمِلُ نَعلَيهِ، حَتّى جاءَ إلى عُثمانَ فَوَجَدَهُ يُصَلّي، فَانصَرَفَ عُثمانُ حينَ رَأى رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله.
فَقالَ لَهُ: «يا عُثمانُ، لَم يُرسِلنِي اللَّهُ تَعالى بِالرَّهبانِيَّةِ، ولكِن بَعَثَني بِالحَنيفِيَّةِ السَّهلَةِ السَّمحَةِ، أصومُ وأُصَلّي، وألمِسُ أهلي، فَمَن أحَبَّ فِطرَتي فَليَستَنَّ بِسُنَّتي، ومِن سُنَّتِي النِّكاحُ»[5] .
وروى أنس قال: إنَّ نَفَراً مِن أصحابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله سَأَلوا أزواجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله عَن عَمَلِهِ فِي السِّرِّ. فَقالَ بَعضُهُم: لا أتَزَوَّجُ النِّساءَ، وقالَ بَعضُهُم: لا آكُلُ اللَّحمَ، وقالَ بَعضُهُم: لا أنامُ عَلى فِراشٍ.
فَحَمِدَ اللَّهَ وأثنى عَلَيهِ فَقالَ: «ما بالُ أقوامٍ قالوا كَذا وكَذا؟! لكِنّي اُصَلّي وأنامُ وأصومُ وافطِرُ وأتَزَوَّجُ النِّساءَ، فَمَن رَغِبَ عَن سُنَّتي فَلَيسَ مِنّي»[6] .
ويستفاد من هذه الأحاديث وغيرها ضرورة الاعتدال والتوازن حتى في العبادات وفعل الطاعات، وليس من الصحيح ترك المباحات مطلقاً، أو التقصير في أداء الواجبات الأخرى بحجة العبادة والزهد عن الدنيا، بل المطلوب الاعتدال في العبادة، وإتيان كل شيء في وقته ومكانه وزمانه بما يحافظ على التوازن والاعتدال، ويمنع من الإخلال بالواجبات والمسؤوليات الأخرى.
2- الاعتدال في المشاعر:
الاعتدال في المشاعر تجاه من نتعامل معهم أمر في غاية الأهمية والضرورة، لأنه أمر عقلائي، وله فوائد عديدة في بناء العلاقات الإنسانية، وأما التطرف في المشاعر فضرره أكبر من نفعه؛ ومن الخطأ أن يكون الإنسان متطرفاً في حبه وبغضه للآخرين، لأن التطرف في الحب والبغض يؤدي إلى العمى عن رؤية الحقائق، وعدم القدرة على التعامل الصحيح مع الأصدقاء وغيرهم من الناس.
وقد أشار الإمامُ عليٌّ عليه السلام إلى ذلك بقوله: «أحبِبْ حَبيبَكَ هَوناً ما فعَسى أن يَكونَ بَغيضَكَ يَوماً ما، وأبغِضْ بَغيضَكَ هَوناً ما فعَسى أن يَكونَ حَبيبَكَ يَوماً ما»[7] .
وعنه عليه السلام قال: «إذا أحبَبتَ فلا تُكثِرْ»[8] . أي لا تتطرف في حبك للأشخاص، بل كن معتدلاً في مشاعرك حتى في الحب، فربما تحول المحبوب إلى عدو لك في يوم من الأيام فتصاب بصدمة عنيفة تفقدك القدرة على التحكم في نفسك ومشاعرك.
إن بعض الناس إذا أحبوا أناساً لم يروا أي عيب لهم، وبالغوا في مشاعرهم الجياشة تجاهم إلى درجة العمى، فيرون سيئتاهم حسنات، وزلاتهم مناقب، وأخطائهم فضائل!
وفي المقابل نجد البعض الآخر إذا كرهوا أناساً لأي سبب كان بالغوا في كراهيتهم وبغضهم لهم، فلا يرون لهم أي حسنات؛ بل يعتبرون حسناتهم سيئات، وأعمالهم الخيّرة مثلبات!
وفي كلتا الحالتين يؤثر التطرف في المشاعر وغياب الاعتدال في تأسيس التعامل الخاطئ مع الآخرين، والمطلوب الاعتدال في المشاعر تجاه من نحب أو نكره حتى نكون قادرين على التعامل الصحيح معهم.
3- الاعتدال في الطعام والشراب:
الاعتدال في الطعام والشراب، وتجنب الإسراف فيهما ، يحافظ على الصحة، ويقي الإنسان من الإصابة بالأمراض المختلفة والمزمنة، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾[9] .
وتبين الدراسات الحديثة أن كثيراً من الأمراض المعاصرة سببها عدم الالتزام بهذه القاعدة القرآنية، والإسراف في تناول الأكل والشرب بنهمٍ شديد بما يسبب الإصابة بالسمنة وارتفاع الضغط والسكري وتصلب الشرايين وغيرها من الأمراض المزمنة.
وأما الاعتدال في الطعام والشراب، وقلة الأكل فيقي الإنسان من الأمراض، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: «مَنْ قَلَّ طُعْمُهُ صَحَّ بَطْنُهُ وَصَفَا قَلْبُهُ، وَمَنْ كَثُرَ طُعْمُهُ سَقُمَ بَطْنُهُ وقَسَا قَلْبُهُ»[10] . وعنه صلى الله عليه وآله قال: «إيّاكُمْ والبِطْنَةَ؛ فَإنَّها مَفْسَدةٌ لِلبَدَنِ، وَمُورِثَةٌ للسُّقْمِ، وَمَكْسَلَة عَنِ العِبَادَةِ»[11] . وعنه صلى الله عليه وآله قال: «لا تُمِيتُوا القُلُوبَ بِكَثْرَةِ الطَّعَامِ والشَّرَابِ؛ فإنَّ القَلْبَ يَمُوتُ كَالزَّرْعِ إذَا كَثُرَ عَلَيْهِ المَاءُ»[12] .
وقال الإمامُ عليٌّ عليه السلام: «قِلَّةُ الغِذَاءِ أكْرَمُ لِلنَّفْسِ، وأدْوَمُ لِلصِّحَّةِ»[13] . وعنه عليه السلام قال: «مَنْ قَلَّ طَعَامُهُ قَلَّتْ آلامُهُ»[14] . وعنه عليه السلام قال: «مَنْ كَثُرَ أَكْلُهُ قَلَّتْ صِحَّتُهُ، وَثَقُلَتْ عَلى نَفْسِهِ مُؤْنَتُهُ»[15] .
فكثرة الأكل والشرب يقلل من الصحة، ويسبب الأمراض، ويورث الأسقام؛ وأما الأكل باعتدال واقتصاد فأدوم للصحة، وأحسن للبدن، وأصفى للقلب.
4- الاعتدال في تبني الأفكار:
إن الاعتدال في تبني الأفكار، وعدم التعصب أو التشدد تجاه الأفكار التي نتبناها سواء كانت بقناعة أم بوراثة أمر في غاية الأهمية للابتعاد عن التطرف الفكري، لأن أي فكرة قابلة للخطأ والصواب، وهي ليست معصومة عن الخطأ؛ فلا داعي للتعامل مع أي فكرة بشرية بتعصب وتطرف.
وكل شخص يمكن أن يتبنى بعض الأفكار في بداية حياته وشبابه، وعندما يكبر وينضج ويرشد أكثر يتضح له خطأ ما كان يتعصب له من أفكار، وربما يضحك على تبنيه لها!
ومن المفيد للغاية الاستماع إلى أفكار الآخرين، وتقبل نقد ما نراه صحيحاً من أفكار، والاعتدال في التعامل مع أي فكرة؛ لأنه في أي وقت قد نرى خطأ ما كنا نعتقد بصحته، وصحة ما كنا نراه خطأ عند الآخرين، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾[16] .
[1] سورة البقرة: الآية 143.
[2] نهج البلاغة: الحكمة 70.
[3] غرر الحكم: 1716.
[4] الكافي: ج 5 ص 496 ح 5، بحار الأنوار: ج 22 ص 124 ح 94.
[5] الكافي: ج 5 ص 494 ح 1 عن ابن القدّاح، بحار الأنوار: ج 22 ص 264 ح 3.
[6] صحيح مسلم: ج 2 ص 1020 ح 5، صحيح البخاري: ج 5 ص 1949 ح 4776، سنن النسائي: ج 6 ص 60 كلاهما نحوه، مسند ابن حنبل: ج 4 ص 569 ح 14047، صحيح ابن حبّان: ج 1 ص 190 ح 14، كنز العمّال: ج 3 ص 31 ح 5318.
[7] الأمالي للطوسي: 364/ 767.
[8] غرر الحكم: 3979.
[9] سورة الأعراف: الآية 31.
[10] تنبيه الخواطر: 1/ 46.
[11] بحار الأنوار: 59/ 266/ 41.
[12] تنبيه الخواطر: 1/ 46.
[13] غرر الحكم: 6819.
[14] غرر الحكم: 8409.
[15] غرر الحكم: 8903.
[16] سورة الزمر: الآية 18.