الزهد من مكارم الأخلاق، ومعالي الأمور، وهو من أعظم المقاصد، وأجل الموارد، وأنجح الوسائل في تزكية النفس وتهذيبها.
والزهد في أصل اللغة: عدم الرغبة. من زهد في الشيء: إذا لم يرغب فيه. و(الزُّهْدُ) ضِدُّ الرَّغْبَةِ تَقُولُ: ( زَهِدَ ) فِيهِ وَزَهِدَ عَنْهُ مِنْ بَابِ سَلِمَ وَ( زُهْدًا ) أَيْضًا . وَ(زَهَدَ ) يَزْهَدُ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا ( زُهْدًا ) وَ( زَهَادَةً ) بِالْفَتْحِ لُغَةٌ فِيهِ. وَ (التَّزَهُّدُ) التَّعَبُّدُ. وَ (التَّزْهِيدُ) ضِدُّ التَّرْغِيبِ. وَ(الْمُزْهِدُ ) بِوَزْنِ الْمُرْشِدِ الْقَلِيلُ الْمَالِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَفْضَلُ النَّاسِ مُؤْمِنٌ مُزْهِدٌ»[1] .
وأما اصطلاحاً: فهو سجية في النفس تقتضي تحقير الدنيا، وما فيها تحقيراً يمنع من الميل إليها، والرغبة فيها، والانكباب عليها؛ كما يعني الزهد اجتناب ملاذ الدنيا، وعدم مصادقة أهلها من أجلها، والرغبة في الآخرة، والتزود لها، والتقرب من الله سبحانه وتعالى بالعبادة والتعبد والدعاء والمناجاة.
وعندما نقرأ سيرة أئمة أهل البيت الأطهار نجد أنهم كانوا من أزهد الناس وأفضلهم، وأبعدهم عن الدنيا، رغم ما كان بأيديهم من أموال، وما يُعطى إليهم من حقوق مالية وجوائز عينية، لكنهم كانوا يصرفونها على الفقراء والمساكين، ويعيشون عيشة الزهاد.
وسيرة الإمام الحسن بن علي كانت كسيرة جده رسول الله ، وسيرة أبيه أمير المؤمنين الذي كان غنياً – أيام حكمه – وتحت يده بيت مال المسلمين، ولكنه عاش فقيراً، زاهداً في زخارف الحكم وبهارجه، وطلق الدنيا ثلاثاً لا رجعة له فيها، حيث يقول : « يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا إِلَيْكِ عَنِّي أَبِي تَعَرَّضْتِ أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ، لَا حَانَ حِينُكِ هَيْهَاتَ غُرِّي غَيْرِي لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ، قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثاً لَا رَجْعَةَ فِيهَا، فَعَيْشُكِ قَصِيرٌ وخَطَرُكِ يَسِيرٌ وأَمَلُكِ حَقِيرٌ، آه مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ وطُولِ الطَّرِيقِ، وبُعْدِ السَّفَرِ وعَظِيمِ الْمَوْرِدِ»[2] .
ونهج الإمام الحسن نهج جده وأبيه في الزهد والتزهد، فقد كان زاهداً في الدنيا وما فيها، معرضاً عن جميع مباهجها وملذاتها، فقد تنازل عن الخلافة وبهارجها، ليعيش عيشة الزهَّاد وحياة العُبَّاد.
وروي عن الإمام الصادق عن آبآئه تأكيدهم على حقيقة زهد الإمام الحسن بالقول: «إنَّ الحَسَنَ بنَ عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ كانَ أعبَدَالناسِ وَأزهَدَهُم وَأفضَلَهم في زَمانِهِ»[3] .
وقد اشتهر بين الخاصة والعامة أن الإمام الحسن كان في غاية الزهد والتزهد، و كان زاهداً في الدنيا، ومعرضاً عنها حتى أن محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي (ت 381هـ) قد ألّف كتاباً بعنوان: ( كتاب زهد الحسن )[4] ، مما يعني أن زهده كان أمراً مشهوداً ومعلوماً عند الجميع، كما كان باقي أئمة أهل البيت كلهم يتصفون بالزهد والورع بشهادة الفريقين.
فهذا ابن الصباغ المالكي يقول عن زهد الإمام الحسن : وكان من أزهد الناس في الدنيا ولذّاتها، عارفاً بغرورها وآفاتها، و كثيراً ما كان يتمثّل بهذا البيت:
يا أهل لذّات دنيا لا بقاء لها إنّ المقام بظلّ زائل حمق[5]
وكان مكتوباً على خاتم للإمام الحسن بيتين من الشعر يشير فيه إلى مدى زهده، وهما:
قدم لنفسك ما استطعت من التقى إن المنية نازل بك يا فتى
أصبحت ذا فرح كأنك لا ترى أحباب قلبك في المقابر والبلى[6]
وله( ع ) أيضاً في زهده عن الدنيا وقناعته بالقليل منها، هذا الشعر:
لكسرة من خسيس الخبز تشبعني وشربة من قراح الماء تكفيني
وطمرة من رقيق الثوب تسترني حياً وإن مت تكفيني لتكفيني[7]
وفي التذكير بالآخرة، والزهد في الدنيا، وضرورة الاستعداد للرحيل من هذه الدنيا الفانية يقول الإمام الحسن في بيتين من الشعر هما:
قل للمقيم بغير دار إقامة حان الرّحيل فودّع الأحبابا
إنّ الّذين لقيتهم وصحبتهم صاروا جميعاً في القبور ترابا[8]
ويكفي في بيان عظيم زهده أنه تنازل عن الخلافة والملك في سبيل مرضاة الله تعالى، والحفاظ على الإسلام، وحفظ مصالح المسلمين؛ ولو كان من أهل الدنيا لأصرّ على الخلافة وتمسك بها، وليكن ما يكون كما يفعله حكام الدنيا في كل زمان ومكان.
حقيقة الزهد بمفهومه الإسلامي الأصيل يعني أن لا يملكك أو يسيطر عليك أي شيء من الدنيا وبهارجها وليس ألّا تملك شيئاً، فالزاهد الحقيقي ليس من لا يملك شيئاً ثميناً، ولكنه الذي لا يملكه أي شيء وإن كان نفيساً.
وعلى هذا فقد يكون الثري ذا الأموال الوفيرة والممتلكات الكثيرة زاهداً، والفقير الذي لا يملك شيئاً راغباً في الدنيا ومائلاً إليها.
فالإمام الحسن لم يمنعه زهده من أن يلبس الملابس الفاخرة والجميلة والنظيفة، مع المحافظة على الوقار والهيبة، لأن ذلك لا يتعارض مع حقيقة الزهد ومفهومه.
فقد نقل عنه: أنّه اغتسل وخرج من داره في بعض الأيّام وعليه حلّة فاخرة و بزّة وبردة طاهرة، ومحاسن سافرة [وقسمات ظاهرة] بنفحات [ناشرة] طيّبات عاطرة، ووجهه يشرق حسناً، وشكله قد كمل صورة ومعنى، [والإقبال] والسعد يلوح من أعطافه، ونضرة النعيم تعرف في أطرافه، و [قاضي القدر] قد [حكم أنّ السعادة من أوصافه] ركب بغلة فارهة غير قطوف، وسار مكتنفاً من حاشيته وغاشيته بصفوف [فلو شاهده عبد مناف لأرغم بمفاخرته به معاطس أنوف، وعدّه وآباءه وجدّه في إحراز خصل الفخار يوم التفاخر بألوف]. فعرض له في طريقه شخص من محاويج اليهود [همّ في هدم] وعليه مسح من جلود، وقد أنهكته العلّة و [ارتكبته] الذلّة [وأهلكته القلّة، وجلده يستر عظامه وضعفه يقيّد أقدامه، وضرّه قد ملك زمامه، وسوء حاله قد حبّب إليه حمامه] وشمس الظهيرة قد تشوى شواه [وقد أحرقت بحرها أخمصية ويصافح ثرى ممشاه، وعذاب حرّ عريه قد عراه، وطول طواه قد أضعف بطنه وطواه] وهو حامل جرّة ماء على قفاه، فاستوقف الحسن فقال: يا بن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله سؤال فقال: له ما هو؟
قال: جدّك يقول: «الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر» وأنت المؤمن وأنا الكافر، فما أرى الدنيا إلّا جنة لك تتنعّم بها و أنت مؤمن و تستلذّ بها، وما أراها إلّا سجناً [لي] قد أهلكني ضرها و أتلفني فقرها.
فلمّا سمع الحسن كلامه أشرق عليه نور التأييد واستخرج الجواب [بفهمه] من خزانة علمه وأوضح لليهودي خطأ ظنّه وخطل زعمه وقال: يا شيخ لو نظرت إلى ما أعدّ اللّه تعالى لي وللمؤمنين في دار الآخرة ممّا لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، لعلمت [أني] قبل انتقالي إليه في هذه الدنيا في سجن ضنك، ولو نظرت إلى ما أعدّ اللّه لك ولكلّ كافر في الدار الآخرة من سعير نار جهنّم، ونكال العذاب الأليم المقيم لرأيت [أنّك] قبل مصيرك إليه [الآن] في جنّة واسعة و نعمة جامعة[9] .
وهذا يوضح أنه من الخطأ التصور أن الزهد يعني لبس الملابس الرثة والرديئة، والعيش في كوخ بسيط، أو ترك العمل، أو عدم النظافة...فمثل هذه السلوكيات وأمثالها مما يفعله بعض أهل التصوف ليست من الزهد في شيء، لأن الزهد الحقيقي يعني عدم الرغبة في الدنيا، والميل لها، والانكباب عليها بما ينسي الآخرة، كما أن الزهد يعني الرغبة في الآخرة، والعمل لها، والتزود للفوز بالجنة والنعيم الأخروي مع عدم نسيان النصيب من الدنيا، كما قال الله تعالى: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾[10] .
[1] مختار الصحاح: ص 138.
[2] نهج البلاغة: ج 4، ص 677، الحكمة رقم 77.
[3] وسائل الشيعة: ج 11، ص 80، ح 14293.
[4] رجال النجاشي: ص 374، رقم 1049. معجم رجال الحديث: السيد الخوئي، ج 17، ص 342، رقم 11319.
[5] الفصول المهمة: ج 2، ص 706. بحار الأنوار: ج 43، ص 341.
[6] تاريخ مدينة دمشق: ج 13، ص 260.
[7] مناقب آل أبي طالب: ج 4، ص 19. بحار الأنوار: ج 43، ص 341.
[8] مناقب آل أبي طالب: ج 4، ص 19. بحار الأنوار: ج 43، ص 341.
[9] الفصول المهمة: ج 2، ص 705.بحار الأنوار: ج 43، ص 346.
[10] سورة القصص: الآية 77.