التسامح فضيلة من الفضائل الأخلاقية والإنسانية النبيلة، وقيمة مهمة من القيم الفضلى التي حثّ عليها الإسلام، ودعا إلى التحلي بها، وأمر أتباعه بالتخلق بالسماحة والعفو واللين في التعامل والسلوك، وأوصى بالإحسان والبر إلى جميع فئات ومكونات المجتمع حتى يعيش الناس في تعايش ومحبة وانسجام ووئام.
والمجتمعات الإنسانية في الواقع المعاصر بحاجة ماسة وشديدة إلى روح التسامح الفعّال والتعايش الإيجابي بين مختلف المكونات الدينية والمذهبية والفكرية والثقافية المكونة لكيان أي مجتمع بشري.
وفي سيرة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وتجربته العملية أثناء عهده العديد من الشواهد والأمثلة التي تدل على تسامحه وعفوه وصفحه ورأفته ورحمته حتى بأعدائه وخصومه؛ بل أعطاهم كافة حقوقهم رغم معارضتهم له، وهذا مدون في كل كتب التاريخ والسيرة والتراجم بالتفصيل.
يأتي التسامح الديني بمعنى إبداء السماحة تجاه أهل الأديان الأخرى فضلاً عن أهل المذاهب المختلفة بالسماح لهم في التعبير عن معتقداتهم الدينية، وممارسة كافة حقوقهم الدينية والشخصية وفق مبتنياتهم العقدية والدينية.
كما يأتي التسامح الديني بمعنى التيسير والاعتدال بعيداً عن التساهل أو التنطع في الدين، وقد أشار صاحب كتاب (الوافي): «الفيض الكاشاني» إلى أهمية التيسير والاعتدال والوسطية في الدين، وأوضح معنى الحنفية والسمحة والسهلة - وهو يشرح معنى الحديث النبوي المشهور: «بعثت بالحنيفية السمحة السهلة البيضاء»[1] - بقوله: «والحنفية هي المائلة من طرفي التفريط والإفراط إلى الوسط والسهلة تفسير للسمحة وهي عبارة عن التيسير الذي في الأمة المرحومة المشار إليه بقوله سبحانه: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾[2] وبقوله: ﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾[3] والبيضاء عبارة عن وضوحها في الحقية»[4] .
وهذا يعني أن الحنفية هو اتباع الوسطية الحقة والميلان نحو الدين الحق، والالتزام بأحكام الله تعالى بعيداً عن التساهل في تطبيق الأحكام أو التشدد والتنطع في الدين.
وهذا هو المقصود بأن الدين الإسلامي هو دين السماحة والرحمة واليسر، وأن أحكام الإسلام وقيمه كلها تؤدي إلى هذا المنهج والمسلك الذي فيه الرحمة واليسر، ولا يعني ذلك عدم الالتزام بأحكام الإسلام، أو التقصير في تطبيق التشريعات الإسلامية، أو تجاوزها.
ولأن الناس بطبيعتهم يختلفون في كل شيء، وتتباين وجهات نظرهم في القضايا الدينية والاجتماعية والفكرية وغيرها؛ فهم بحاجة إلى التسامح؛ ومنه (التسامح الديني) كقيمة أخلاقية وإنسانية، وكحل عقلاني لإيجاد الصيغ المناسبة للتعايش فيما بينهم، واحترام بعضهم البعض الآخر، بعيداً عن روح التعصب والكراهية والصدام، أو الإقصاء والعنف ضد المخالف الديني.
في ظل الإسلام لا تُلغى الديانات الأخرى، ولا يحظر وجود سائر الفرق والملل الأخرى، بل نظّم الإسلام تشريعات ووضع قوانين لحماية أتباع الأديان الأخرى والتعامل معهم في إطار الدولة الإسلامية.
وهذا ما حصل في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام)، حيث احترم حريات الناس بما فيها حق المعتقد والدين، وفي الوقت الذي كان الإمام (عليه السلام) في أقصى درجات القوة عندما كان خليفة للمسلمين، وحدود بلاده واسعة تمتد من أواسط ما كان يُسمى بـالاتحاد السوفياتي سابقاً إلى غرب أفريقيا لم يجبر أو يقهر أحداً على ترك عقيدته واعتناق الإسلام، بل العكس صحيح؛ فقد ورد في روايات عديدة عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) حول حرية الأقليات الدينية: فعن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنه قال «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم»[5] .
وتدل (قاعدة الإلزام) على التسامح في الإسلام مما يعني إعطاء الآخر المذهبي، بل والآخر الديني الحق في الالتزام بما يعتقد، ويراه صحيحاً طبقاً لمذهبه أو دينه.
وهذه القاعدة الفقهية التي يعمل بها الفقهاء تدل على إنسانية الإسلام وتأصيل روح التسامح تجاه الآخر المذهبي والديني؛ فهذه القاعدة الفقهية تؤسس للحرية الدينية لأتباع المذاهب الإسلامية المختلفة، بل وأتباع الأديان الأخرى، وتتيح لهم العمل وفق عقائدهم وأحكامهم، وفي هذا إقرار بقبول التعايش مع أهل الأديان فضلاً عن المذاهب الإسلامية المختلفة.
وحينما يقبل الإسلام بوجود أهل الأديان والملل الأخرى ضمن مجتمعه وفي ظل دولته، فإنه يمنحهم الحرية الكاملة في ممارسة شعائر أديانهم والقيام بطقوس عباداتهم، وتنفيذ تعاليمها وأحكامها دون أن يفرض عليهم شعائره وأحكامه أو يتدخل في شؤون أديانهم.
وقد تعهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) لنصارى نجران بضمان حريتهم الدينية في عباداتهم وشعائرهم كما جاء في نص معاهدته لهم في كتابه لأبي الحارث بن علقمة أسقف نجران وهذا نصه:
«بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد النبي إلى الأسقف أبي الحارث وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم: إن لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير من بِيَعهم وصلواتهم ورهبانيتهم وجوار الله ورسوله .. لا يغيّر أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا سلطانهم، ولا شيء مما كانوا عليه [على ذلك جوار الله ورسوله أبداً] ما نصحوا واصطلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين»[6] . وكان هذا الكتاب بخط الإمام علي كما قال المؤرخ اليعقوبي في تاريخه[7] .
إن هذه الرسالة من النبي (صلى الله عليه وآله) إلى نصارى نجران تنص على حرية العقيدة وضمان حقوق (الآخر الديني)، وعدم إكراههم على ترك عقيدتهم؛ إذ أن من حق الإنسان أن يختار العقيدة التي يرغب فيها، دون أي إكراه أو جبر، ولكنه إذا اختار الإسلام بإرادته لم يجز له أن يرتد عنه، وقد سار الإمام علي (عليه السلام) أيام خلافته على هذا النهج الذي رسمه رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وأوضح أمير المؤمنين الإمام عليّ (عليه السلام) أن التعامل في ظل الدولة الإسلامية يجب أن يكون بمنطق الرحمة والعفو والتسامح مع جميع الناس، سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين، وقد أشار (عليه السلام) إلى ذلك في كِتابِهِ لمالك الأشتَرِ لَمّا وَلّاهُ مِصرَ بقوله: «وأشعِرْ قَلبَكَ الرَّحمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، والمَحَبَّة لَهُم، واللُّطفَ بِهِم، ولا تَكونَنَّ علَيهِم سَبُعاً ضارِياً تَغتَنِمُ أكلَهُم؛ فإنَّهُم صِنفانِ: إمّا أخٌ لَكَ في الدِّينِ، أو نَظيرٌ لَكَ في الخَلقِ، يَفرُطُ مِنهُمُ الزَّلَلُ، وتَعرِضُ لَهُمُ العِلَلُ، ويُؤتى على أيديهِم في العَمدِ والخَطأِ، فأعطِهِم مِن عَفوِكَ وصَفحِكَ مِثلَ الّذي تُحِبُّ وتَرضى أن يُعطِيَكَ اللَّهُ مِن عَفوِهِ وصَفحِهِ، فإنَّكَ فَوقَهُم، وَوالِي الأمرِ علَيكَ فَوقَكَ، واللَّهُ فَوقَ مَن وَلّاكَ!»[8] .
وهذه القاعدة المهمة التي قالها أمير المؤمنين (عليه السلام): (فإنَّهُم صِنفانِ: إمّا أخٌ لَكَ في الدِّينِ، أو نَظيرٌ لَكَ في الخَلقِ) ضرورية جداً في النظر إلى الناس والتعامل معهم، فعلى الإنسان أن لا يعتدي ويسيئ إلى أخيه الإنسان لمجرد اختلافه معه في الدين أو المذهب، وان ينصفه من نفسه، ويتعامل معه بعدل وإحسان سواء أكان على دينه أم على دين آخر.
والإسلام قد حفظ حقوق أهل الذمة، وأصحاب الأديان الأخرى، وأمر بالعدل والقسط والإحسان والرحمة مع جميع الرعية وإن اختلفوا في الدين ... هذا على المستوى النظري.
وأما على المستوى التطبيقي: فقد بلغ التسامح الديني في الإسلام أن يسمح للذمي أن يخاصم إمام المسلمين ويطالبه بالبّينة لدعواه، كما اتفق ذلك في قصة درع أمير المؤمنين (عليه السلام) ومخاصمته في عصر خلافته مع رجل من اليهود عند شريح القاضي[9] .
ونشير إلى واقعة أخرى تؤكد على ضمان أمير المؤمنين (عليه السلام) لحقوق غير المسلمين ممن يعيشون في المجتمع المسلم وتحت ظلال الدولة الإسلامية، حيث تسجل لنا كتب التاريخ هذا الموقف النبيل، إذ روى الشيخ الطوسي في التهذيب بسنده عن محمد بن أبي حمزة: عن رجل بلغ به أمير المؤمنين عليه السّلام قال: مرّ شيخ مكفوف كبير يسأل، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: ما هذا؟
فقالوا: يا أمير المؤمنين نصراني!
فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: «استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه، أنفقوا عليه من بيت المال»[10] .
وقد أفتى بعض الفقهاء كالشيخ الحر: بأن ضمان الدولة لا يختص بالمسلم، فالذمي الذي يعيش في كنف الدولة الإسلامية إذا كبير وعجز عن الكسب، كانت نفقته من بيت المال[11] . واستفادوا في استنباط فتاواهم من هذه الحادثة وغيرها.
وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على إنسانية الإسلام، والتعامل بعدل وإنصاف مع الإنسان بصورة عامة حتى مع غير المسلم الذي يعيش في كنف الدولة الإسلامية، ويرعى كافة حقوقهم المشروعة، وما ذكرناه من شواهد وأمثلة يؤكد على نهج التسامح الديني الذي كان سائداً في عهد أمير المؤمنين عليه السّلام.
[1] كتاب الوافي، الفيض الكاشاني: محمد بن مرتضى، تحقيق: السيد علي عبدالمحسن بحر العلوم، دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1432هـ - 2011م، ج 7، ص 39.
[2] سورة الحج، الآية: 78.
[3] سورة البقرة، الآية: 135.
[4] كتاب الوافي، الفيض الكاشاني: محمد بن مرتضى، تحقيق: السيد علي عبدالمحسن بحر العلوم، دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1432هـ - 2011م، ج 7، ص 39.
[5] الوافي، الفيض الكاشاني، ج 26، ص 148، رقم 24889.
[6] البداية والنهاية، ابن كثير، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ - 1988م، ج 5، ص 67. مكاتيب الرسول، الأحمدي الميانجي، دار الحديث، قم، الطبعة الأولى 1419هـ، ج 3، ص 148.
[7] تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 82.
[8] نهج البلاغة: الكتاب 53. بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج 33، ص 600.
[9] راجع: بحار الأنوار: ج 41، ص 56.
[10] تهذيب الأحكام: الشيخ الطوسي، ج 6، ص 293، ح 811.
[11] اقتصادنا: السيد محمد باقر الصدر، مؤسسة الإعلام الإسلامي، قم، الطبعة الثانية 1425هـ، ص 669.