عرفت الشعوب والأمم منذ زمن بعيد الرق، وهو استملاك الإنسان للإنسان، وقد كان معمولاً بهذا الأمر قبل الإسلام وبعده، ولم تتخلص البشرية منه بشكل قانوني ورسمي إلا في القرن العشرين الميلادي.
وقد شجع الإسلام على تحرير العبيد وعتقهم، وذلك من خلال أسلوبين في غاية الأهمية والحكمة وهما:
الأسلوب الأول: التشجيع على تحرير العبيد وعتقهم، واعتبار ذلك من أفضل القربات إلى الله تعالى. كما جعل عتق رقبة كفارة للعديد من الأخطاء والجنايات التي يرتكبها المسلم كالإفطار في شهر رمضان عمداً، وكفارة الحنث باليمين، وكفارة النذر، وكفارة قتل شخص عن طريق الخطأ.... وغيرها.
الأسلوب الثاني: غلق كل المنافذ الموجبة إلى الاسترقاق، فقد سدّ الإسلام الكثير من الأسباب والأساليب الموجبة للاسترقاق باستثناء حالة واحدة وهي: التعامل بالمثل في الحروب، حيث أن المشركين والكفار كانوا سيترقون الأسرى المسلمين مما دفع إلى التعامل معهم بالمثل، كما يجوز التعامل مع الأسرى بالمن والفداء كما في قوله تعالى: ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ﴾[1] .
فالإسلام كان يشجع على تحرير العبيد من جهة، ومن جهة أخرى كان يعتبر الاتجار بالبشر من أبغض التجارات وأشدها كراهية.
إن ظاهرة الموالي (العبيد) من الظواهر البارزة في الكثير من المجتمعات البشرية، وخاصة في القرون الماضية، حيث كانت ظاهرة العبيد من الظواهر المنتشرة، ومن العادات المقبولة في الوسط الاجتماعي آنئذ، إذ يتم الاستفادة منهم في الخدمة والعمل في المنازل والبيوت، وخاصة بيوت الأشراف، وأهل الجاه والمال.
وفي عهد الإمام السجاد انتشر العبيد بكثرة في المجتمع، نتيجة دخول المسلمين إلى بلاد أخرى، والتوسع في الرقعة الجغرافية، إذ أنه «في زمن الإمام زين العابدين الذي عاصر حكم عبد الملك بن مروان وابنه الوليد بن عبد الملك، توجه عبد الملك بن مروان وبالذات بعد قضائه على الحركة الزبيرية في الحجاز والعراق، توجه صوب توسعة الرقعة الإسلامية وخاصة في أفريقيا، وتمكن من أن يغنم من الأموال ما لا يعد من الذهب والمجوهرات، حتى كانت عبارات المؤرخين (ما الله أعلم به) »[2] .
وفي الأندلس تمكن طارق بن زياد وموسى بن نصير من العثور على مائدة وعرش سليمان، وهذه الثروة بطبيعتها ترفع من المستوى المعاشي للمجتمع وخاصة أصحاب الوجاهة والرموز الاجتماعية في الأمة، حيث يدفع لهم الحاكم الهدايا والعطايا ويقضي حوائجهم هذا فضلاً عن العطاء الثابت سنوياً.
وكذلك غنم المسلمون من هذه البلاد أكثر من 60 ألف مسبي، وتحول كل هؤلاء إلى موالي بداخل الأمة[3] ، ونص عبارة ابن الاثير هي: فبلغ الخمس ستين ألف رأس من السبي ولم يذكر أحد أنه سمع بسبي أعظم من هذا[4] .
وعندما عاد الجيش الإسلامي إلى دمشق جلب معه 30 ألف جارية بكر كما جاء عن بعض المؤرخين.
وهذا الأمر فرض وجود أعداد كبيرة من الإماء والجواري والموالي في بيوت ومجتمع المسلمين، وهو ما يترتب عليه من آثار اجتماعية وثقافية وأخلاقية وتربوية عديدة ومتنوعة، وتحتاج إلى معالجات جادة.
وقد تعامل الإمام السجاد تعاملاً إنسانياً راقياً مع فئة العبيد، وبذل جهده للارتقاء بهم علمياً ودينياً وأخلاقياً حتى تحول العديد منهم إلى أعضاء فاعلين ومؤثرين في المجتمع المسلم.
وبالرغم من النظرة الدونية للعبيد من قبل الأوساط الاجتماعية في المدن الإسلامية ومنها المدينة المنورة حيث كان الأهالي لا يرغبون في التزوج من الإماء والإنجاب منهن.
«وقد كانت ظاهرة الإنجاب من الموالي غير مرغوب فيها من قبل أهل المدينة للوضع الاجتماعي الذي كان آنذاك، ومن أهم أسبابه هو عدم الرغبة في أن يكون الولد وفيه عرق غير عربي، وكانوا يرون أن ذلك يؤثر على موقع الابن بين الأمة في كفاءته او احترام الناس إليه، حتى كان موقع الإمام زين العابدين ( ع ) فتغيرت نظرتهم لذلك»[5] .
«وكان أهل المدينة يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد حتى نشأ فيهم علي بن الحسين بن علي، وفاق أهل المدينة فقهاً وعلماً وورعاً، فرغب الناس حينئذٍ في السراري»[6] .
وقد كسر الإمام السجاد ظاهرة عدم الزواج من الإماء، فتزوج أمته، وهو ابن بنت رسول الله، ولا يدانيه في النسب والحسب أحد مما شجع الآخرين على التزوج منهن، والإنجاب أيضاً.
يمكن أن نركز الحديث حول تعامل الإمام السجاد الإنساني مع العبيد في النقاط التالية:
1- تعليم العبيد:
اهتم الإمام السجاد كثيراً بمسألة تربية العبيد على القيم الدينية والأخلاقية، وتعليمهم أهم مسائل وأحكام الإسلام، ثم عتقهم بعد ذلك.
وقد دفع هذا الأمر بهؤلاء العبيد إلى الولاء للإمام السجاد والبقاء على ولائهم وخطهم العقائدي لأهل البيت ، والوفاء للإمام بالدفاع عنه، ورفض التعرض له بأي سوء.
2-تزوج الإماء والإنجاب منهن:
كان للروح القبلية، والعصبية القومية، والأعراف الجاهلية أثرها السلبي في التعامل مع الموالي والإماء.
ولكن الإمام السجاد قد تجاوز كل تلك الأعراف والتقاليد العربية المتوارثة من الجاهلية، وتزوج بنفسه الشريفة من الإماء مع ما له من مقام رفيع، ومنزلة علمية عميقة، ونسب عربي أصيل، إلا أنه أراد أن يثبت الأحكام الشرعية، ومقاصد الإسلام الكبرى، والتخلص من الروح الطبقية والقبلية الخاطئة.
وقد حاول الأمويون النيل من مقام الإمام السجاد ، والتقليل من مكانته، والغمز لزواجه من أمته، إلا أن الإمام أجابهم بمنطق الإسلام القوي والواضح.
فقد رصد عيون عبد الملك بن مروان الذين بثهم والي المدينة لمراقبة قادة الأمة ورموزها وعلى رأسهم الامام علي بن الحسين السجاد أنه قد تزوج أمته.
إذ كان لعبد الملك بن مروان عين بالمدينة يكتب إليه بأخبار ما يحدث فيها، وإن علي بن الحسين أعتق جارية له ثم تزوجها، فكتب العين إلى عبد الملك، فكتب عبد الملك إلى علي بن الحسين : أما بعد، فقد بلغني تزويجك مولاتك، وقد علمت أنه كان في أكفائك من قريش من تمجد به في الصهر وتستنجبه في الولد، فلا لنفسك نظرت ولا على ولدك أبقيت والسلام.
فكتب إليه علي بن الحسين : أما بعد: فقد بلغني كتابك تعنفني بتزويجي مولاتي، وتزعم أنه كان في نساء قريش من أتمجد به في الصهر وأستنجبه في الولد، وأنه ليس فوق رسول اللَّه مرتقى في مجد ولا مستزاد في كرم، وإنما كانت ملك يميني خرجت مني كما أراد اللَّه جل وعز مني بأمر التمست به ثوابه ثم ارتجعتها على سنة، ومن كان زكياً في دين اللَّه تعالى فليس يخل به شيء من أمره، وقد رفع اللَّه بالإسلام الخسيسة، وتمم به النقيصة، وأذهب اللؤم، فلا لؤم على امرئ مسلم، وإنما اللؤم لؤم الجاهلية والسلام.
فلما قرأ الكتاب رمى به إلى ابنه سليمان فقرأه، فقال: يا أمير المؤمنين لشد ما فخر عليك علي بن الحسين .
فقال: يا بني لا تقل ذلك، فإنها ألسن بني هاشم التي تفلق الصخر وتغرف من بحر، إن علي بن الحسين يا بني يرتفع من حيث يتضع الناس[7] .
وينقل لنا التاريخ أيضاً جوار ساخن بين زيد بن علي وهشام بن عبد الملك الأموي، إذ دخل زيد بن علي على هشام بن عبد الملك، وقد جمع له هشام أهل الشام وأمر أن يتضايقوا في المجلس حتى لا يتمكن من الوصول إلى قربه.
فقال له زيد: إنه ليس من عباد الله أحد فوق أن يوصي بتقوى الله، ولا من عباده أحد دون أن يوصى بتقوى الله، وأنا أوصيك بتقوى الله يا أمير المؤمنين فاتقه.
فقال له هشام: أنت المؤهل نفسك للخلافة، الراجي لها؟ وما أنت وذاك، لا أم لك، وإنما أنت من أمة!
فقال له زيد: إني لا أعلم أحداً أعظم منزلة عند الله من نبي بعثه وهو ابن أمة، فلو كان ذلك يقصر عن منتهى غاية لم يبعث، وهو إسماعيل ابن إبراهيم ، فالنبوة أعظم منزلة عند الله أم الخلافة يا هشام؟ وبعد فما يقصر برجل أبوه رسول الله: وهو ابن علي بن أبي طالب [8] .
فالأمويون يتحدثون بمنطق الجاهلية، حيث العصبية والاستعلاء بينما الإمام السجاد وابنه زيد يتحدثون بمنطق الإسلام الذي حطم الأعراف والعادات الجاهلية المقيتة.
3-التسامح مع العبيد:
اتصف تعامل الإمام السجاد مع العبيد والإماء بالرحمة والعفو والإحسان والصفح والتواضع والتسامح معهم.
وقد سجل لنا التاريخ الكثير من القصص والشواهد على ذلك، ومنها:
أ-إن مولى لعلي بن الحسين ، كان يتولى عمارة ضيعة له، فجاء ليطلعها فأصاب فيها فساداً وتضييعاً كثيراً، غاظه ما رآه وغمه، فقرع المولى بسوط كان في يده، وندم على ذلك.
فلما انصرف إلى منزله، أرسل في طلب المولى، فأتاه فوجده عارياً والسوط بين يديه، فظن أنه يريد عقوبته، فاشتد خوفه، فأخذ علي بن الحسين السوط ومد يده إليه، وقال: « يا هذا، قد كان مني إليك ما لم يتقدم مني مثله، وكانت هفوة وزلة، فدونك السوط واقتص مني»
فقال المولى: يا مولاي، والله إن ظننت إلا أنك تريد عقوبتي، وأنا مستحق للعقوبة، فكيف اقتص منك؟!
قال: «ويحك اقتص».
قال: معاذ الله، أنت في حل وسعة، فكرر ذلك عليه مراراً، والمولى كل ذلك يتعاظم قوله ويحلله، فلما لم يره يقتص، قال له: « أما إذا أبيت، فالضيعة صدقة عليك » وأعطاه إياها[9] .
ب-جعلت جارية لعلي بن الحسين تسكب الماء عليه وهو يتوضأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجه، فرفع علي بن الحسين رأسه إليها.
فقالت الجارية: إن الله عز وجل يقول: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾.
فقال لها: قد كظمت غيظي.
قالت: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾.
قال لها: قد عفى الله عنك.
قالت: ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.
قال : اذهبي فأنتِ حرة[10] .
ج- دعا علي بن الحسين مملوكه مرتين فلم يجبه ثم أجابه في الثالثة، فقال: يا بني أما سمعت صوتي؟
قال: بلى.
قال: فلم لم تجبني؟
قال: أمنتك.
قال: الحمد لله الذي جعل مملوكي يأمنني[11] .
وهذه القصص تدل على تسامح الإمام السجاد وتعامله بلطف ورفق وعفو وإحسان وإنسانية لا نجد لها مثيلاً ولا نظيراً إلا عند جده رسول الله وآبائه الطاهرين.
4– عتق العبيد سنوياً:
اتخذ الإمام السجاد منهج تحرير العبيد؛ فكان يقيم محفلاً سنوياً لعتقهم من أجل نيل الثواب والأجر، وأيضاً تشجيع الآخرين على العتق، وذلك لتحقيق حرية الإنسان، والتخلص من العبودية.
وقد كان الإمام يقتني الكثير من العبيد ويعيشون معه مدة من الزمن، ثم يطلق سراحهم ليعيشوا أحراراً.
«وما من سنة الا وكان يعتق فيها في آخر ليلة من شهر رمضان المبارك ما بين العشرين رأساً إلى أقل أو أكثر.. »[12] .
وما استخدم خادماً فوق حول، وكان إذا ملك عبدا في أول السنة أو في وسط السنة، إذا كان ليلة الفطر اعتق واستبدل سواهم في الحول الثاني، ثم اعتق، كذلك كان يفعل حتى لحق بالله تعالى.
ويظهر من بعض الروايات أن الإمام كان يقيم مهرجانين لعتق العبيد سنوياً، الأول في نهاية شهر رمضان. والثاني بعد الانتهاء من الوقوف بعرفة، حيث كان يقتنيهم مع قرب موسم الحج، ويعتقهم في اليوم التاسع من ذي الحجة.
ونتيجة لهذا التعامل الإنساني للإمام السجاد فقد أصبح له الكثير من المؤيدين في هذه الشريحة الاجتماعية، وقد وقفوا مع الإمام في الكثير من المواقف الصعبة كوقوفهم مع ثورة المختار بن أبي عبيدة الثقفي ضد الأمويين، ودفاعهم عن الإمام السجاد ضد من يحاول النيل منه، أو الانتقاص من مكانته. وحافظ الكثير منهم على ولائهم للإمام ، وتمسكهم بمنهجه العقائدي والديني والفكري لما رأوه من تعامل إنساني رفيع، ولما وجدوه عنده من أخلاق راقية وإنسانية لم يجدوا مثلها في أي مكان آخر.
لقد غيّر الإمام السجاد بتعامله الإنساني الرفيع مع العبيد حياة الكثيرين منهم، واستطاع دمجهم في المجتمعات المسلمة، وكسب محبتهم وقلوبهم وعقولهم، مما جعلهم قوة إضافية لقوة المسلمين، وأتباع مدرسة أهل البيت الأطهار.
[1] سورة محمد، الآية:4.
[2] الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج 4، ص 277. تاريخ الطبري، ج 4، ص 19.
[3] موسوعة الإمام زين العابدين، الشيخ محسن الحسيني، ج2، ص166.
[4] الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج 4، ص 252.
[5] موسوعة الإمام زين العابدين، الشيخ محسن الحسيني، ج2، ص166.
[6] تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج 20، ص 57. عيون الأخبار، ابن قتيبة الدينوري، ج 4، ص 10.
[7] فروع الكافي، الشيخ الكليني، ج 3، ص 348، ح 4. الوافي، الفيض الكاشاني، ج 22، ص 46، ح 20864. الوسائل، الحر العاملي، ج 20، ص 72 – 73، ح 25063.
[8] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 46، ص 186 - 187، ح 52.
[9] مستدرك الوسائل، النوري الطبرسي، ج 18، ص 288، ح 22773. بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 46، ص 94.
[10] مستدرك الوسائل، النوري الطبرسي، ج 1، ص 345، ح 801. بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 46، ص 68، ح 36.
[11] تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج 41، ص 387. بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 46، ص 56، ح 6.
[12] موسوعة الإمام زين العابدين، ج 2، ص 181.