
من أهم ركائز النجاح في الحياة هو نظم الأمور، بأن تكون حياة الإنسان منظمة ومرتبة في كل شيء؛ لأن ذلك يختصر الزمن والجهد والطاقة، ويسهِّل إنجاز الأعمال، ويؤدي إلى إدارة شؤون الحياة بصورة أسرع وأحسن وأتقن.
وأما من تكون حياته قائمة على الفوضى والارتجال والإهمال فسيكون الفشل حليفه، وعدم القدرة على إنجاز أي شيء حقيقي في حياته وإن طال به العمر؛ لأن الحياة تقوم على قوانين وسنن لا يمكن تخطيها، ومن هذه القوانين أن النجاح مرتبط بدقة النظم والتخطيط والتقدير وحسن الإدارة لشؤون الحياة.
والحاجة إلى النظام ونظم الأمور حاجة مستمرة وضرورة دائمة، ولكنها في هذا العصر أكثر حاجة وأهمية من ذي قبل، لكثرة انشغالات الإنسان المعاصر، وطبيعة الحياة المعاصرة وتشعباتها، وتعدد الأعمال وتنوعها.
ولا تقتصر الحاجة إلى النظم والإدارة على الأفراد، بل تشمل المؤسسات والشركات والمجتمعات الإنسانية، لأن الالتزام بالنظام والنظم وحسن الإدارة من متطلبات الحياة لتحقيق النجاح والتميز والتقدم في كل ميادين ومجالات الحياة.
لو تأملنا بتمعن في كل أجزاء الكون العظيم من الذرة إلى المجرة لرأينا أنه قائم على دقة النظام وحسن الترتيب في كل شيء، فدقة النظام والتنظيم في هذا الكون العظيم الذي أوجده الله سبحانه وتعالى يجعل العلم الحديث مع تطوره المذهل يخشع كلما تقدم خطوات في بحوثه العلمية للدقة والنظام الذي يحكم هذا الكون، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾[1] ، وقوله تعالى: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾[2] هذه الدقة في النظام الكوني، والنظم في حركة الكواكب والمجرات والنجوم بتقدير وترتيب وتنظيم دقيق بحيث تسبح في مداراتها من دون أي اصطدام يدل على عظمة الخالق عزَّ وجلَّ، وقيمة النظم والترتيب في الكون والحياة.
تتكون الشريعة من عبادات ومعاملات وأحكام، وكلها قائمة على دقة التشريع، وروعة النظم فيها، فالعبادات كلها قائمة على التنظيم الدقيق لكيفياتها وأوقاتها، فالصلوات الخمس لها أوقاتها المحددة بدقة في الليل والنهار، والصيام له شهر مخصوص وهو شهر رمضان، والحج لا يتم إلا في شهر ذي الحجة، ولو خالفت تنظيم أوقات العبادة عمدًا، فإنها لن تقبل منك.
وفي المعاملات تنظم الشريعة حياة الإنسان مع نفسه ومع غيره بصورة دقيقة ومنظمة ومرتبة حتى تسير الحياة وفق ضوابط منظمة في كل أبواب المعاملات الحياتية.
إن هذه التشريعات الدقيقة للعبادات والمعاملات يجب أن نستلهم منها دروسًا في تنظيم حياتنا بطريقة علمية بعيدًا عن الفوضى والارتجال، وأن ننظم أوقاتنا حتى نستفيد منها بصورة سليمة، فحياة الإنسان قصيرة، والسعيد من اغتنم أوقاته فيما يفيد وينفع، فجوهر الحياة في اغتنام الزمن.
ونظم الأمور لا يقتصر أهميته وضرورته على صعيد دون آخر، أو مجال دون غيره، بل هو مهم وضروري لكل مجالات الحياة، ذلك أن النظام والنظم هو سر الوجود والكون!
لأهمية نظم الأمور في حياة الإنسان والمجتمع أكَّدت التعاليم والوصايا الدينية على النظم وحسن التدبير، فقد أوصى أمير المؤمنين لولديه الحسنين -وهو في آخر حياته- بالنظم قائلًا: «أُوصيكُما وجَميعَ وُلدي وأهلي ومَن بَلَغَهُ كِتابي: بِتَقوَى اللَّهِ ونَظمِ أمرِكُم»[3] فجاءت الوصية بالنظم بعد التقوى مباشرة في تأكيد على أهمية نظم الأمور في حياة الأفراد والمجتمع؛ لأنها قاعدة لا غنى عنها لتحقيق الأهداف وبناء الذات وتطوير المجتمع.
وفي المقابل حذَّر القرآن الكريم من عدم النظام، واعتبر أن الإهمال والفوضى والتفريط من سمات الغافلين كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾[4] فمن يتبع هواه وأموره بلا ترتيب ولا نظام فإنه في غفلة من أمره، ويعيش في سبات عميق.
ومن مفردات النظام والإدارة: هو: حسن التدبير، ورد عن الإمام عليّ : «أدَلُّ شَيءٍ على غَزارةِ العَقلِ حُسنُ التَّدبيرِ»[5] ، وعنه
: «صَلاحُ العَيشِ التَّدبيرُ»[6] ومعنى حسن التدبير إدارة الأعمال بتنظيم وترتيب ودقة، وحسن التصرف، ولذا قال
: «حُسنُ التَّدبيرِ يُنمِي قَليلَ المالِ، وسُوءُ التَّدبيرِ يُفني كَثِيرَهُ»[7] .
وأما من لا يحسن التدبير، ولا ينظم حياته بصورة دقيقة فإن مآله الخيبة والفشل، فقد ورد عن الإمام عليّ : «سُوءُ التَّدبيرِ سَبَبُ التَّدميرِ»[8] ، وعنه
: «مَن ساءَ تدبيرُهُ كانَ هَلاكُهُ في تَدبيرِهِ»[9] .
ومن مفردات النظام والنظم أيضًا: إتقان العمل، فالإتقان نوع من أنواع النظم والتنظيم والترتيب، روي عن رسول اللَّه : «إنَّ اللَّهَ تَعالى يُحِبُّ إذا عَمِلَ أحَدُكُم عَمَلًا أن يُتقِنَهُ»[10] .
وعن الإمام الصادق : «إنَّ رَسولَ اللَّهِ
نَزَلَ حَتّى لَحَدَ سَعدَ بنَ مُعاذٍ وسَوَّى اللَّبِنَ عَلَيهِ، وجَعَلَ يَقولُ: ناوِلني حَجَراً، ناوِلني تُراباً رَطباً، يَسُدُّ بِهِ ما بَينَ اللَّبِنِ، فَلمَّا أن فَرَغَ وحَثَا التُّرابَ عَلَيهِ وسَوَّى قَبرَهُ، قالَ رَسولُ اللَّهِ
: إنّي لأَعلَمُ أنَّهُ سَيَبلى ويَصِلُ إلَيهِ البَلاءُ، ولكِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ عَبداً إذا عَمِلَ عَمَلًا أحكَمَهُ»[11] .
ولا يقتصر حث الإسلام على نظم الأمور في الحياة الدنيا، بل يشمل ما بعد الموت أيضًا، فعندما يدعو الدين إلى كتابة الوصية وأن تكون بدقة وإتقان فإنه من نظم الأمور لما يريده بعد حياته من أعمال وصدقات جارية، ولضمان تقسيم التركة بين الورثة من دون مشاكل وعقبات، والتي قد تحدث إما لعدم الوصية أصلًا أو لعدم إتقانها.
إن الوصية مستحبة في الأصل، وينبغي للمؤمن ألا ينام وإلا وقد كتب وصيته، وأن يحسن كتابتها؛ وإلا فهو ناقص المروءة والعقل، لما في صحيح سُلَيْمَانَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِاللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
: «مَنْ لَمْ يُحْسِنْ وَصِيَّتَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ كَانَ نَقْصاً فِي مُرُوءَتِهِ وعَقْلِهِ»[12] .
وفي وَصِيَّةِ النَّبِيِّ لِعَلِيٍّ
أَنَّهُ قَالَ: «يَا عَلِيُّ، مَنْ لَمْ يُحْسِنْ وَصِيَّتَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، كَانَ نَقْصاً فِي مُرُوءَتِهِ، وَلَمْ يَمْلِكِ الشَّفَاعَةَ»[13] .
والوصية حق، فقد روى الْمُفِيدُ فِي الْمُقْنِعَةِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «الْوَصِيَّةُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ»[14] .
وروي عنه : «مَا يَنْبَغِي لِامْرِئٍ مُسْلِمٍ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَةً إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ تَحْتَ رَأْسِهِ»[15] .
وروي عنه : «مَنْ مَاتَ بِغَيْرِ وَصِيَّةٍ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»[16] .
وهذا يكشف عناية الإسلام بترتيب شؤون حياة الإنسان وتنظيمها بدقة سواء في حياته أو ما بعد رحيله.
إن قدرة الإنسان على ترتيب أعماله وتنظيم حياته بصورة دقيقة وعملية تشكل الأرضية الصلبة لبناء الذات، وتحقيق النجاح، ذلك أن الاتصاف بصفة النظام أو تنظيم الأمور يعبر عن شخصية حضارية واعية ومدركة لقوانين الحياة وسننها.
والحاجة لتنظيم الأمور مهمة للغاية من أبسط الأشياء إلى أكبرها، ولا تقتصر على مجال دون آخر، أو بعد دون غيره، فالمنزل بحاجة إلى نظام وتنظيم وترتيب، والعمل - مهما كان نوعه - بحاجة إلى نظام وتنظيم، والمكتبة كذلك تفتقر إلى الترتيب والنظم، والحياة كلها تفتقر إلى التنظيم والنظام؛ لأن ذلك ركيزة من ركائز النجاح والتقدم والتطور والارتقاء في كل مجالات الحياة.
وأما من تقوم حياته على الفوضى في كل شيء، والارتجال في كل الأمور، فإنه سيفشل في تحقيق أي هدف يسعى له، أو غاية يطمح للوصول إليها.
فإذا أردت النجاح اجعل حياتك مرتبة ومنظمة في كل شيء، ولا تجعل للفوضى مكانًا في حياتك؛ فالإنسان الملتزم بقاعدة (نظم الأمور) وإتقان الأعمال يستطيع أن يصنع النجاح تلو النجاح حتى يصل إلى مرحلة التميز والتفوق في مسيرته العملية.
[1] سورة الفرقان: 2.
[2] سورة يس: 40.
[3] نهج البلاغة: الكتاب 47.
[4] سورة الكهف: 28.
[5] غرر الحكم: 3151.
[6] غرر الحكم: 5794.
[7] غرر الحكم: 4833.
[8] غرر الحكم: 5571.
[9] غرر الحكم: 8768.
[10] كنز العمّال: ج 3 ص 907 ح 9128.
[11] الوسائل: ج 3 ص 230 ح 3484.
[12] الوسائل: ج19، ص 260، ح 24550.
[13] الوسائل: ج19، ص 265، ح 24558.
[14] الوسائل: ج19، ص 258، ح 24544.
[15] الوسائل: ج19، ص 258، ح 24545.
[16] الوسائل: ج19، ص 259، ح 24546.