ما يجلب المحبة في نظر الإمام الجواد (عليه السلام)
الشيخ عبدالله اليوسف - 7 / 6 / 2024م - 1:26 م

الإنسان بطبيعته الفطرية والنفسية يرغب أن يكون محبوبًا عند الناس، ومقدرًا لديهم، ومحترمًا في نظرهم؛ لأن في هذا توكيدًا للذات، وتعزيزًا للنفس، وشعورًا بالراحة النفسية، وإحساسًا بالسعادة والرضى عن النفس.

ولنيل محبة الناس ومودتهم توجد خصال وصفات معينة يجب توافرها في الشخص حتى يحوز على محبة الآخرين، وينال احترامهم، وقد أشار إليها الإمام الجواد بقوله: «ثلاثُ خِصالٍ تُجْتَلَبُ بهِنَّ المَحبَّةُ: الإنْصافُ في المُعاشَرَةِ، والمُواساةُ في ‏الشِّدّةِ، والانْطِواعُ والرُّجوعُ إلى‏ قَلبٍ سَليمٍ»[1] .

وفي هذا النص يوضح الإمام الجواد ما يجلب المحبة، ويورث المودة، وهي:

أولًا- الإنْصافُ في المُعاشَرَة

من أهم الخصال التي تجلب المحبة: الإنصاف في التعامل مع من تعاشرهم وتجالسهم، ومعنى الإنصاف هو إعطاء الناس ما يستحقونه كاملًا من دون نقص ولا بخس ولا إجحاف ولا محاباة ولا تحيز؛ والإنصاف تارة يكون بالقول والكلام، وتارة ثانية يكون بالفعل والعمل، وتارة ثالثة يكون بهما معًا.

ومن أهم موارد الإنصاف: ما يكون في معاشرة الآخرين ومصاحبتهم؛ إذ يتضح المنصف من غيره، فالبعض يفتقر إلى هذه الصفة الأخلاقية الجميلة، فلا ينصف من يعاشرهم، ولا يتعامل معهم بإنصاف، بل يجحدهم حقوقهم، ويبخسهم أشياءهم، ولذا نهى القرآن الكريم عن البخس كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ[2] .

إن على الإنسان الذي يرغب في نيل محبة الناس واحترامهم أن يكون منصفًا في تعامله معهم، فيتعامل مع من يعاشرهم من الناس بإنصاف وعدل، سواء كانوا من الأقرباء والأرحام أو من الأصدقاء والزملاء أو غيرهم، وعلى المرء ألا يكون مجحفًا لهم، وباخسًا لحقوقهم حتى يجتلب محبتهم ويحوز على مودتهم، وقد أكد على ذلك أيضًا الإمام علي بقوله: «الإنصافُ يَستَديمُ المَحَبَّةَ»[3] ، وعنه : «الإنصافُ يُؤلِّفُ القُلوبَ»[4]  فبالإنصاف تدوم المحبة، وتتعزز الثقة، وتستمر الصداقة، وتتآلف القلوب، وتتقارب النفوس.

ومن أهم المصاديق التي يجب التعامل فيها بإنصاف هو تعامل الزوجين مع بعضهم البعض، وعلى كل طرف أن ينظر إلى شريك حياته بإنصاف وعدل، فلا يجحف بحقوق الطرف الآخر، ولا يبخسه حقه، ولا ينكر الفضل الذي بينه وبين شريك حياته خصوصًا عند حالات الاختلاف والشقاق، قال تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ[5] .

والإنصاف وسيلة لحل الخلافات أو تقليلها، ويوجب الرضى والتصالح، ولذا قال الإمام علي : «الإنصافُ يَرفَعُ الخِلافَ، ويُوجِبُ الايتِلافَ»[6] .

وتتجلى أخلاقيات الإنسان وإنصافه للآخرين عند اختلافه معهم في رأي أو فكرة أو نهج أو موقف، فإذا كان صاحب خُلُق رفيع فإنه ينصف الآخرين من نفسه، وأما إذا لم يكن كذلك فإنه يبخس من يختلف معهم، ويقلل من شأنهم، ويحط من قدرهم بقدر ما يستطيع!

إن من أفضل الفضائل الأخلاقية وأهم الخصال الموجبة للمحبة هو إنصاف الناس من نفسك، وفي المقابل فإن من أهم الخصال الموجبة للعداوة والكراهية والنفور هو بخس الناس أشياءهم، وعدم إعطائهم حقوقهم.

ثانيًا- المُواساةُ في ‏الشِّدّة

الخصلة الثانية مما توجب المحبة: مواساة الآخرين في أحزانهم وأتراحهم، والوقوف معهم في الشدائد والمصاعب؛ فالإنسان يُعرف عند المواقف الصعبة، ويختبر في الضيق والشدة، وليس في السراء والرخاء.

ومعنى المواساة لغة: المُشَارَكَةُ فِي الحُزْنِ، تَقولُ: وَاسَاهُ إِذَا شَارَكَهُ حُزْنَهُ، وَالأَسَى: الحُزْنُ وَالأَلَمُ، وَأَصْلُ كَلِمَةِ المُواسَاةِ مِنَ الأَسْيِ وَهُوَ المُدَاواةُ وَالإِصْلاحُ، يُقالُ: أَسَوْتُ الجُرْحَ أَيْ دَاوَيْتُهُ، وَمِنْ مَعانِي المُواسَاةِ أَيْضًا: التَّعْزِيَةُ والمُوَافَقَةُ والمُساهَمَةُ والمُسَاعَدَةُ[7] .

وتعد المواساة في الشدائد من الأخلاق الفاضلة، والصفات الحميدة النبيلة، والمواساة تكون مادية كما تكون معنوية؛ فالوقوف بصدق مع الأقارب والأرحام والأصدقاء والمحتاجين في الشدائد والمواقف الصعبة من المواساة، ومعاونتهم مواساتهم بالمال والنفس والجاه والخدمة والنصيحة والإرشاد ... من الخصال التي تورث المحبة وتجلب المودة.

والإنسان في الأحزان والشدائد يحتاج لمن يقف بجانبه، ويخفف عما ألَّم به، ويشعر بمعاناته، ويتألم لآلامه، ويتأثر لحزنه؛ وأما في حالات الرخاء والرفاهية فلا يعرف الصادق من غيره، ولا المحب من غير المحب، ولذا نجد الإمام الجواد لم يذكر المواساة في حالة الرخاء وإنما اكتفى بذكر حالة الشدة؛ لأن الناس تعرف في الشدائد والضيق.

ثالثًا- الانْطِواعُ والرُّجوعُ إلى‏ قَلبٍ سَليم

الخصلة الثالثة مما تجلب المحبة: الانقياد والرجوع إلى القلب السليم، وهو القلب النظيف، القلب النقي، القلب الطاهر؛ وحتى يكون القلب سليمًا على الإنسان أن يكون متقيًا، ومطيعًا لله سبحانه، ومن يلتزم بذلك يكون محبوبًا عند الناس، لما ورد عن الإمام الجواد : «مَنِ اتَّقَى اللَّهَ أَحَبَّهُ النَّاسُ وَإِنْ كَرِهُوا»[8] ، وقد أكد القرآن الكريم على هذه الحقيقة كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا[9]  فالإيمان الصادق مع الإتيان بالأعمال الصالحة يجعل القلب سليمًا، ويؤدي إلى نيل محبوبية الناس، حيث ﴿سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً محبة ومودة في قلوب المؤمنين، فمن يكون كذلك يحبه الله تعالى ويأمر ملائكته بمحبته، ويجعل حبه أيضاً في قلوب المؤمنين الصالحين.

والقلب السليم أيضًا يكون خاليًا من الأحقاد والضغائن والعداوات والأغلال والخصومات وغيرها من أمراض القلوب وأسقام النفوس.

إن الناس بفطرتها تحب من يكون نظيف القلب، طيِّب النفس، والذي يتعامل معهم بنية حسنة، وأخلاق حسنة، وأفعال حسنة، ويحب لهم الخير كما يحبه لنفسه؛ ولذا ورد عن الإمام عليّ : «لا يَصدُرُ عنِ القَلبِ السَّليمِ إلّا المَعنى‏ المُستَقيمُ»[10] . وعنه : «لا يَسلَمُ لكَ قَلبُكَ حتّى‏ تُحِبَّ للمُؤمنينَ ما تُحِبُّ لنفسِكَ»[11] .

وعن الإمام الصادق : «صاحِبُ النِّيّةِ الصادِقَةِ صاحِبُ القَلبِ السَّليمِ، لأنَّ سلامَةَ القَلبِ مِن هَواجِسِ المحذوراتِ، بتخليصِ النِّيّة للَّهِ‏ في‏الأُمورِ كُلِّها، قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ[12] »[13] .

وأما صاحب القلب السقيم فتنفر منه الناس وتكرهه، فالقلب الملوث بالمعاصي والذنوب، والممتلئ سوادًا بالأحقاد والضغائن على الآخرين؛ فتراه يحسد هذا، ويحقد على ذاك، ويتمنى الشر والسوء للآخرين، فإنه يكون منبوذًا عند الله سبحانه وعند الناس.

إن على من يحب أن يكون محبوبًا عند الله عزَّ وجلَّ أن يطهّر قلبه من الأحقاد، وينظفه من جميع الملوثات، حتى يصبح قلبه سليمًا، ثم ينقاد له ويطيعه، ولا ينقاد إلى الهوى والشهوات التي تحرفه عن جادة الصواب والصراط المستقيم.

وخلاصة الكلام: إن على من أراد أن يكون محبوبًا عند الله سبحانه وتعالى وعند الناس، وأن يكون ناجحًا اجتماعيًا في تعامله مع الآخرين؛ عليه التحلي بهذه الخصال الثلاث التي ذكرها الإمام الجواد ، وهي: الإنصاف في المعاشرة، والمواساة في الشدة، والانقياد إلى القلب السليم.

وأما من لا يتصف بهذه الخصال الحميدة، ولا يتحلى بهذه الصفات النبيلة فعليه ألا يطمع في محبة الناس ومودتهم، فمن يكون مجحفًا بحقوق الناس وباخسًا لهم، ولا يشاركهم في أحزانهم، وعند الضيق والشدة، ويتعامل مع الآخرين بحقد وكراهية وضغينة وسوء نية؛ فمن الطبيعي أن تنفر الناس منهم، ولا يجد من يصادقه، ولا من يحبه؛ فالنفوس جبلت على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها.

الهوامش:

[1] كشف الغمّة: 3/ 119.

[2] سورة الأعراف: 85. سورة هود: 85. سورة الشعراء: 183.

[3] غرر الحكم: 1076.

[4] غرر الحكم: 1130.

[5] سورة البقرة: 237.

[6] غررالحكم: 1702.

[7] راجع المعاجم اللغوية كلسان العرب والصحاح وغيرها.

[8] کشف الغمة: 3/ 117.

[9] سورة مريم: 96.

[10] غرر الحكم: 10874.

[11] بحار الأنوار: 75/ 8/ 64.

[12] سورة الشعراء: 88 و 89.

[13] بحار الأنوار: 67/ 210/ 32.
اضف هذا الموضوع الى: