الكاريزما الشخصية عند الشيخ عبدالله اليوسف
الأستاذ علي البحراني * - 17 / 2 / 2025م - 9:51 م

الحديث عن الشيخ اليوسف حديث يتسم بالتنوع والتشعب وتعدد الخيارات، إذ يتحير الشخص من أين يبدأ وفي أي اتجاه يتحدث ويرصد معالم هذه الشخصية الفذَّة، التي امتلكت الكثير من المميزات الشخصية والعملية، كانت قد ساهمت في تحقيق القدرة على اجتذاب الآخرين خصوصاً المتابعين له، ومن يسعون لأفق حياتي وثقافي أوسع وأشمل، ذلك نظير الرسالة التي كان  -ولا يزال- يحملها منذ أكثر من أربعة عقود من الزمن، انطلاقاً من الهم الديني والاجتماعي (والثقافي أيضاً)، حيث كان الشباب هم أكثر من يجذبهم بشخصيته، ويحتويهم ويصل إلى خواطرهم ومشاعرهم، ويرصد ويقوِّم توجهاتهم، ويتقاطع مع ملاحظاتهم وهمومهم، من خلال الكاريزما المتميزة والمهارات الخاصة في الإلقاء والكتابة، وآلية النصح والتوجيه، فضلاً عن المعلومات الغزيرة التي يمتلكها ويقوم بتوظيفها لجذب الشباب، ومن ثم توجيههم بما يتوافق مع الشرع الإسلامي الحنيف.

ويعتبر الشيخ عبدالله اليوسف أنموذجاً، وربما كان ظاهرة خاصة متميزة، عمل -بإرادة جادة وإخلاص عميق وثقافة عالية- على إظهار أخلاق العالم الفاضل، وصفة الواعظ الصادق، ونية العامل المخلص، التي اكسبته احترام الناس ومودتهم، وقبول إرشاداته وتوجيهاته، وكان له أثر كبير على مكانته المجتمعية، ويظهر هذا في مجمل خطاباته وكلماته، وكذلك في كتبه وإصداراته المتتابعة التي استطاع -بقدرة فائقة- أن يرصد الهمّ الاجتماعي بنظرة دينية وإظهار الصورة ومن ثم التقييم والدعوة لاتخاذ الموقف المناسب، المؤيد أو الرافض، الداعم أو المتحفظ، كل بما يتوافق -أو لا يتعارض- مع الشريعة الإسلامية الغرّاء.

اللقاء الأول

بدأت علاقتي المباشرة مع سماحة الشيخ عبدالله اليوسف عندما كنتُ في ريعان الشباب حينما قدم من الخارج بعد إكمال دراسته الحوزوية، خلال حقبة الثمانينيات، ضمن ذلك الجيل الرائع الذي تجشم عناء الهجرة لأجل الدراسة الدينية وانتهال علوم أهل البيت، فقد سمعنا به ونحن حينها في الصف الثالث المتوسط تقريباً، كان في ذلك الوقت القليل من علماء الدين الذين يهتمون بالشباب، فقد تمحورت -لدى البعض- وظيفة العلماء في تأدية صلاة الجماعة في المسجد فقط، وما تقتضيه هذه المهمة المحدودة من الإجابة على المسائل الشرعية، وهي مهمة محترمة على كل حال، لكنّها لا تعكس دور عالم الدين، الذي مهمته تفوق ذلك بكثير، بل هي جزء صغير من مهام عالم الدين في المجتمع.

وهذا ما فطن له واستوعبه سماحة الشيخ اليوسف، الذي جاء بحديث مغاير لهذا التوجه، إذ كان من العلماء الذين يرون مهمة الصلاة في المسجد هي واحدة من المهام الأساسية (وليست كل شيء)، لذا كان حديثه يلامس واقع المجتمع ومعاناة الشباب ويختزل المعلومات بفكرة عميقة وبأسلوب يناسب جميع المستويات، فتجد دعوته وفكرته ذات بعد حيوي، تتفاعل مع كافة معطيات الحياة اليومية، وترصد معالم الصح والخطأ -من منظور ديني بالطبع- وتصدر مقابل ذلك التوجيهات اللازمة بأسلوب ووسيلة راقية، هي -بالتأكيد- منسجمة مع تعاليم الدين الإسلامي في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

ولعلّي -هنا- أتذكر أن أحد الأصدقاء وهو (حسين آل حياص) اقترح عليَّ بأن نقصد هذا الشيخ الجليل (الجديد علينا) كي نتعرف عليه، ونعقد بداية لعلاقة قويمة معه، فهو -كما بدا لنا حينها وكما سمعنا- أنه شخص متنوّر، ذو ثقافة عالية وعطاء جديد، فقررنا أن نقصده في منطقته في (حلة محيش)، وقتها قلت له: كيف يمكننا الذهاب إلى زيارته ونحن لا نملك مواصلات؟ كيف لنا أن نقطع هذه المسافة وخصوصاً أن (حلة محيش تبعد عن تاروت مسافة كبيرة)؟!

فقال لي: يمكننا أن نحل هذا الإشكال بأن نستقل سيارة بالأجرة توصلنا إلى القطيف ومن ثم نذهب مشياً على الأقدام إلى بلدة (حلة محيش)،  فحددنا اليوم الذي نذهب إليه وكان يوم الخميس بعد انتهائنا من المدرسة، وفعلاً استحسنت الفكرة واستقلينا السيارة، وذهبنا إلى القطيف إلى المكان المعروف حيث يكون تجتمع أصحاب سيّارات الأجرة على خط تاروت -القطيف، حينها سألنا أحدهم عن الطريق الدي يوصلنا إلى (حلة محيش) بحيث يكون قريباً، فأرشدنا على ذلك فذهبنا مشياً على الأقدام إلى هناك، وبعد وصولنا سألنا عن المسجد الذي كان يصلي فيه سماحة الشيخ، وكان وقت صلاة الظهرين، وبالفعل دخلنا إلى المسجد فكان يؤم المصلين، وبعد الانتهاء من الصلاة جلس في مكان في المسجد وقد التف حوله مجموعة من الشباب، ونحن في حالة من الدهشة والإعجاب بالشيخ وبأسلوبه وأريحيته حيث كان يعطي الفرصة إلى الشاب وإن كان صغيراً يتكلم بما لديه ويسأل ويجيبه بكل هدوء وأريحية، ونحن -كما هو حال غيرنا- قد شدَّنا أسلوبه الذي لم نعهده إلّا من القليل من علماء الدين، وبعد انتهاء محاضرته سلَّمنا عليه، عرفناه بأنفسنا، بأننا شباب من تاروت، فسألنا ما إذا كنا لوحدنا أم معنا آخرون، فأخبرناه بأننا جئنا مشياً على الأقدام حتى نقابله، ونسلِّم عليه، فاستقبل ذلك بالترحاب ودعانا إلى بيته وذهبنا معه، وكان ذلك أول لقاء لنا مع الشيخ اليوسف، الذي وضعنا في حالة من الدهشة والانجذاب لأسلوبه المميز، وحديثه الشيّق، وأخلاقه العالية، وبعد أن قرَّرنا المغادرة أمر أحد الشباب أن يوصلنا إلى منطقتنا.

واستمرت اللقاءات بعدها كثيراً وما زالت العلاقة معه حتى يومنا هذا.

العلاقة بالكتاب

في بيته العامر الذي يجلس فيه كل ليلة اثنين وخميس من كل أسبوع يستقبل ضيوفه فيه ومحبيه من مختلف الأعمار الذي يغص بالمرتادين له.
ومن موقع المسؤولية من سماحته في تثقيف المجتمع كان يوزع مؤلفاته على الزائرين له في بيته، كما كان يوزع بعض الكتب والكتيبات التي يأتي بها بعض المؤلفين ليشاركوا المجتمع في تعميق قراءة الكتاب ونشره ولو كان بالمجان لكي يألف المجتمع القراءة والكتابة في شتى المجالات وخصوصاً طلبة العلوم الدينية الذين كانوا يرتادون مجلسه بين الفينة والأخرى.

وأتذكر أن أول كتاب أهداني إيَّاه سماحة الشيخ هو كتابه المشهور الذي طبع منه عدة طبعات وهو (الصعود إلى القمة) حيث اعتبرت نفسي من المحظوظين بأن يهديني الشيخ كتابه هذا، الذي نال صيتاً وسمعة لدى محبّي القراءة والثقافة، لما يحمله من وجهات نظر رصدها بعمق تجربته وثقافته الدينية والاجتماعية، وقام بمعالجتها معالجة فذّة، تبعث على التحفيز لدى القارئ.

التواصل الاجتماعي

إن لسماحة الشيخ تواصله الدائم مع محبيه الذين كان يذهب لهم في مناسباتهم وأفراحهم وأحزانهم، بمعنى أن الشيخ لم يفتأ أن يتواصل مع المجتمع، والتواجد في شتى المناسبات، ومشاركة الناس في أفراحهم وأتراحهم، ويتلمّس -في الغالب- أوضاعهم، فهو جزء من هذا النسيج، لم ينفك أبداً عنه، ولم ينقطع تواصله معه.

ذات يوم دعاني أحد الأصدقاء إلى بيته، حيث قال لي: بأن أحد العلماء من خارج منطقتنا سوف يزورنا في مجلسنا الذي كان يعقدون فيه مجلس القراءة (مجلس حسيني)، فأخذ يمدح في الشيخ كثيراً وفي أخلاقه وتواضعه، وقلت له: من هذا الشيخ الذي سوف يحضر إلى بيتكم؟ قال لي: لعلك لا تعرفه لأنه من خارج المنطقة، ولفت نظري قول صديقي بأنه دعا عدداً من العلماء فلم يتجاوب معه في التواجد في المنزل المتواضع، بل أكد لي هذا الصديق بأنه لم يتوقع هذه الزيارة، وتبين أن الشيخ الزائر هو الشيخ عبدالله اليوسف.

وفي هذا الصدد أتذكر أن الشيخ اليوسف (حفظه الله) فاجأنا بزيارة جميلة، لا أزال أتذكرها، وذلك في مجلسنا بجزيرة تاروت (حي الحوامي)، فقد جاءت الزيارة مفاجئة، وجلس معنا ـ أنا وإخوتي وأبناء العائلة ـ بكل أريحية بدون تكلّف أو تصنّع، فما زلتُ أتذكر فرحة والدي كم كانت كبيرة بحضور سماحته، إذ تفاعل معه ومع حديثه وحسن أخلاقه.

التواصل من خلال التكنولوجيا

يعتبر الشيخ اليوسف من القلائل الذين استفادوا كثيراً من وسائل العصر وتسخيره للتكنولوجيا من أجل خدمة الناس وإيصال الكلمة الطيبة لهم، والتوعية والإرشاد بهذه الوسيلة الحديثة، فلم يقتصر على التوعية بالخطاب والكتاب والنصح المباشر، ولا غرابة في ذلك، فالشيخ اليوسف هو من عيّنة أو من نماذج علماء الدين الذين آمنوا بالدعوة والتوعية الدينية بشتى الوسائل، والتفاعل مع المستجدات الحياتية وتجييرها لخدمة الدعوة إلى الله جلَّ شأنه، فالدعوة لا تتم في المسجد والحسينية فقط، بل أن الفضاء مفتوح للجميع، فليس الفاجر الكافر الداعي للشيطان أكثر كفاءة من المؤمن الصالح في تجنيد التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي لخدمة أغراضه غير النزيهة، بل يمكن للخط الديني بأن تكون هذه الوسائل خادمة لنشر الدعوة والثقافة الدينية.

فقد استخدمها الشيخ للتأكيد على الوسطية في الخطاب والاعتدال في معالجة الأمور، فلم يكن متشدداً ولا حاداً تجاه أي قضية دينية أو اجتماعية، لقد ناقش جملة من الموضوعات الحساسة والتي يتسم الحديث حيالها بالحدة في النقاش نظير الاختلاف في وجهات النظر حيالها، لكنّه عالجها بهدوء ودقة وإيجابية، ومن أمثلة الموضوعات التي تطرق لها حجاب المرأة، وتعدد الزوجات،  والخيانة الزوجية، ومراهقة الشباب، فضلاً عن  موضوعات العنف في الأسرة والمجتمع بشكل عام، وتظهر هذه الحقيقة في شتى كتاباته ومحاضراته، التي تتسم بالهدوء والمعالجة الدقيقة بعيدة كل البعد عن لغة الإكراه والقسر والطعن واللعن.

وهو يعتبر أول من كتب عبارات قصيرة مفيدة للشباب والمجتمع منذ فترة طويلة وما زال حتى يومنا هذا، ولم ينقطع أبداً عن هذه الحِكَم والدرر التي كان يطلقها في (وسائل التواصل الاجتماعي)، فقد كان يسعى جاهداً لإيصال كلماته إلى الناس دون كلل أو ملل، إذ أن الرسالة التي يحملها تتصف بالاستمرارية التي لا تتوقف ولن تتوقف، بل أنه وفي كل مناسبة من المناسبات يفاجئك بإخراجه كتاباً يتناسب مع الشأن العام، وهو يعتبر من المكثرين في تأليف الكتب في منطقة القطيف وخصوصاً الكتب التي تواكب هموم الشباب والشابات والمجتمع بشكل عام.

وحينما تجتمع الأصالة الدينية واللغة المعاصرة في الوعظ والإرشاد، وتكون للشخص جاذبية التواضع والبساطة والمبسم الجميل؛ ويلامس طرحه حياة الناس؛ يكون تأثيره أكبر وأكثر.

كل هذا لا يجتمع إلا في القليل من الشخصيات، وهم في العادة الأكثر تأثيراً في المجتمع؛ فحفظ الله لنا شيخنا الجليل وسدد خطاه وأيده بتأييده ونفع به المجتمع وأطال الله في عمره.
تلك وقفة قصيرة مع سيرة هذا الرجل الرائع، الذي منذ أن عرفته لم أجد منه إلّا العطاء والرغبة في تقديم الجديد للآخرين، وحرصه الدائم على أن يكون الدين جزءاً من الحياة الاجتماعية، الدين الذي يوصل الناس إلى الله، ويضمن مستقبلهم في الدنيا والآخرة.

اضف هذا الموضوع الى:
كاتب من تاروت - القطيف، له عدة مقالات في الصحف المحلية والمواقع الالكترونية.